صمدت تونس، وكلمة السر هي “التكنوقراط”
كيف استطاعت تونس أن تصمد رغم مظاهر الفوضى السياسية التي أعقبت أحداث الربيع العربي، ورغم ارتدادات الأزمة الاقتصادية العالمية التي وصلت الشواطئ التونسية متأخرة ثلاث سنوات، ورغم جائحة كورونا وأزمة الطاقة والغذاء، ورغم شحّ الأمطار وتراجع منسوب المياه في السدود..
ولكن، كيف يقال إن تونس قد صمدت، وهناك حديث يومي عن تآكل الطبقة الوسطى وتزايد نسبة الفقر، وعن تراجع الخدمات والبنى التحتية؟
كيف صمدت تونس ومعدل النمو دون الثلاثة في المئة، ونسبة البطالة قاربت الـ15 في المئة؟
كيف صمدت تونس، وهناك نقص في المواد الغذائية، وارتفاع مشط في الأسعار، وباتت اللحوم والأسماك مادة محرّمة واختفت أو كادت تختفي عن موائد معظم العائلات التونسية؟
كيف صمدت تونس، والأرقام الرسمية تقول إن الاقتصاد الموازي في البلاد يتجاوز حجم الاقتصاد الرسمي؟
كيف صمدت تونس، والبلاد كما تؤكد الأرقام الرسمية غارقة في الديون؛ بلغ الدَين التونسي العام 109.620 مليار دينار (34.82 مليار دولار) بنهاية أغسطس – آب 2022، بعدما كان 108.163 مليار دينار في شهر يوليو- تموز. وارتفعت نسبة الدين العمومي لتونس من الناتج المحلي الإجمالي بذلك إلى 78.5 في المئة وفق بيانات وزارة المالية.
كيف صمدت تونس، وهناك آلاف من شباب ونساء وأطفال تونس يغامرون بحياتهم سنويا للوصول إلى الضفة الشمالية من البحر المتوسط في قوارب “حرقة” متهالكة بانتظار المجهول؟
وأخيرا، كيف صمدت تونس وقد انفض الشارع التونسي عن السياسة والسياسيين، وكأن ما يحدث في البلاد يحدث في كوكب آخر بعيدا عن الأرض؟
جميع الجهود التي بذلتها أحزاب المعارضة، من يمين ويسار، لتحريك الشارع، وإخراج الناس للاحتجاج على سياسات الحكومة، باءت بالفشل، والدليل على ذلك أن أعداد من لبوا نداء أحزاب المعارضة في كل مرة جرت فيها الدعوة للتظاهر لم تتجاوز بضعة مئات، وإن تجاوزت ذلك فهي ألف لا تؤلفان.
بالمقابل، لم يجذب الدور الثاني للانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا لاختيار أعضاء مجلس النواب، سوى نسبة ضئيلة من الأصوات (11.4 في المئة) اعتبرها البعض فضيحة بحق تونس وحكومتها.
هل صمدت تونس حقا؟ وإن كانت قد صمدت، كيف يمكن قراءة عزوف التونسيين عن الانتخابات، وكيف يمكن تفسير فشل أحزاب المعارضة في حشد الناس وإقناعهم للخروج إلى الشارع؟
الحقائق على الأرض تقول نعم، صمدت تونس، والدليل ما آلت إليه أحوال دول أخرى عبرتها رياح الربيع العربي. وما حدث ويحدث في دول العالم بفعل الجائحة والحرب في أوكرانيا وبفعل التبدّلات المناخية.
لا يوجد عاقل يستطيع أن ينكر تراجع معدلات النمو، وتباطؤ الاقتصاد، وتراجع سعر الدينار، وما رافق ذلك من ارتفاع في الأسعار وفي نسب البطالة، خاصة بين صفوف خريجي المعاهد العليا والجامعات.
ولكن، أليس هذا ما يحدث حتى في دول أوروبية باتت الإضرابات تهدها من شرقها إلى شمالها؟
ما حلّ بالطبقة الوسطى في تونس، التي باتت اليوم أقرب إلى الفقر، حلّ أيضا بالطبقة الوسطى في أوروبا وأميركا ودول آسيوية. في مدينة مثل لندن، لم يعد مستغربا أن نرى موظفين بربطات عنق يصطفون في طوابير للحصول على وجبات طعام مجانية.
صمدت تونس، رغم فشل الأحزاب السياسية التي نمت بعد الثورة كما ينمو الفطر، مستفيدة من مناخ ديمقراطي عمّ البلاد، ليصبح هاجس الوصول إلى الحكم هدفها الوحيد.
الوضع في تونس صعب، كما هو في معظم دول العالم، وكان من الممكن أن يكون أصعب بكثير، لولا الخبرات المميزة التي تمتلكها تونس من إداريين واقتصاديين مشهود بكفاءتهم على المستوى العالمي، والدليل دراسة صدرت مؤخرا عن مؤسسة ”مو إبراهيم” في لندن حول تقييم الحوكمة في القارة الأفريقية، وقد بيّنت الدراسة أن إدارة الحكم في تونس وجزر الموريس وسيشال والرأس الأخضر وبوتسوانا هي الأفضل في القارة.
ويعتمد مؤشّر إبراهيم للحكم في أفريقيا على أكثر من ثمانين مؤشرا مصنّفة في أربع فئات فرعية “الأمن وسيادة القانون” و”المشاركة والحقوق والشمول” و”التنمية البشرية” و”أسس الفرص الاقتصادية”.
صمدت تونس وكلمة السر وراء صمودها هي “التكنوقراط”.
في الحقيقة، عزوف التونسيين عن الانتخابات هو تصويت بنعم لطبقة التكنوقراط من إداريين وخبراء مال واقتصاد، بقيت تعمل في الظل ويعود الفضل إليها في تسيير دواليب الدولة وصمود تونس.
على تونس أن تعمل جاهدة للحفاظ على هذه الثروة من التكنوقراط والكفاءات العلمية، فلم يعد سرّا أنها معرضة للنزيف من قبل دول أوروبية وأميركية – في طليعتها ألمانيا وكندا – تسعى لجذب الكفاءات التونسية الشابة بالإغراءات والتسهيلات المادية.
الخطوات التي تنتهجها الحكومة، وأولها إيلاء الأهمية لحل مشاكل البلاد الاقتصادية، هو تصويب للأمور، وذلك بوضع حصان الاقتصاد أمام عربة السياسة.
بعد أن أدرك الشارع التونسي أن الأزمة التي تشهدها البلاد هي جزء من أزمة عالمية، وأن الشعارات السياسية لليمين واليسار لن تحمي البلاد، اختار التونسيون أن يضعوا مستقبلهم ومستقبل بلادهم بأيدي طبقة التكنوقراط بعيدا عن الانتماءات السياسية.