عباس – زيلينسكي، الحماسة والاكتئاب
علي الصراف
كم مرة في عهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس تعرضت الأراضي الفلسطينية إلى هجمات إسرائيلية بالمدافع والصواريخ والدبابات والطائرات؟ وكم مرة دامت “العمليات العسكرية الخاصة” الإسرائيلية ضد الفلسطينيين أطول مما دامت “عملية” موسكو؟ وكم مرة انتهت قسوة الأعمال الإسرائيلية ضد المدن والبلدات، كما انتهت قسوة الأعمال الروسية في أوكرانيا؟ فماذا فعل؟ أعاد تكرار الجملتين اللتين يحفظهما عن ظهر قلب، ثم تثاءب وذهب لينام.
لا يملك عباس في قاموسه إلا هاتين الجملتين. ولكنه يرددهما لكي يُبطل مفعولهما ويجعل منهما كلاما فاسدا، لا كلام بعده. ولا أفكار.
كان يرى ويسمع ما تفعله صواريخ إسرائيل وطائراتها من أعمال تدمير منهجي وقتل عشوائي للأبرياء، وهجمات ضد المدارس والمستشفيات. ولكن الكسل ظل يدفعه إلى تكرار البيانات البليدة التي تصدر عنه، حتى أصبحت سببا للاكتئاب. وهي ذاتها البيانات التي تتم إعادة استنساخها من أزمة إلى أزمة، بالجمل نفسها، حتى لكأن اللغة العربية جفت، أو حتى لكأن الذين يكتبون النصوص تنقصهم اللغة كما تنقصهم الأسباب. لا ينفعلون ولو طمي عليهم الخطب، كأنهم موتى بزي أحياء.
الرئيس الأوكراني جاء من الكوميديا إلى السياسة فأصبح بطلا قوميا، بينما ذهب نظيره الفلسطيني من السياسة إلى الكوميديا فتحول إلى أضحوكة
اُنظر إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. لم يترك يوما منذ اندلاع الأزمة إلا وكان له خطاب، غير مكتوب قطعا. يلهب به مشاعر شعبه في مواجهة الاحتلال ويشد من عزائمه، ويطلب مساعدات لإنقاذ بلاده من الدمار. وبقي في مقر رئاسته حتى وكييف تحت القصف. وما يزال من المحتمل أن يأتيه صاروخ عابر للقارات من تلك التي يتفاخر بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليتخلص منه. ولكنه لم يهدأ، ولا كف عن توجيه المطالب والمناشدات. طلب كل شيء. طلب أسلحة من كل نوع. بل طلب طائرات ودبابات وغطاء جويا. طلب انتماء سريعا للاتحاد الأوروبي، والمزيد من محاصرة روسيا بالعقوبات. لم يترك شيئا يعتب عليه. وانتقد حتى الذين يقدمون لقواته الأسلحة، ووقفت البرلمانات الأوروبية تصفق له. وبينما يبحث نظراؤه الغربيون عن معاذير للامتناع عن تزويده بما قد يشكل مغامرة لاندلاع حرب أوسع، فإنهم لم يوفروا جهدا في إيصال المساعدات الإنسانية ولا في تزويد قواته بالأسلحة، واستقبلوا الملايين من المهجرين بصدور مفتوحة. لديهم أسباب. ولكنه، بمفرده، كان سببا من أبرز الأسباب. دأب على الظهور بملابسه نفسها، الفانيلا العسكرية الخضراء والجاكيت الأخضر. ولم يحلق لحيته حتى الآن.
هذا الرجل جاء من الكوميديا إلى السياسة فتحول إلى بطل قومي، بل أكثر، بينما ذهب نظيره الفلسطيني من السياسة إلى الكوميديا، فتحول إلى أضحوكة لا تثير إلا الاكتئاب.
رجل يحمل على أكتافه قضية كقضية الشعب الفلسطيني، كان يمكن أن يقلب عاليها سافلها على إسرائيل، ليس فقط عندما كانت تشن هجمات، بل لأنها احتلال متواصل، فلا يكف عن إثارة المشاعر، واستقطاب التعاطف، وإيقاظ الضمائر النائمة. ثم لا يكف عن المطالبة بدعم مقاومة شعبه للاحتلال، بكل الوسائل، بما فيها الوسائل العسكرية، على الأقل لأن العدوان العسكري عدوان عسكري في نهاية المطاف. ولأن الاحتلال احتلال.
لم يقدم زيلينسكي تنازلا، لا عن وحدة أراضي أوكرانيا ولا سيادتها ولا استقلالها. ولكنه أبقى لغته مرنة، وأوحى بإمكانية التفاوض على التفاصيل التي لا تشكل خسارة جسمية، لكي يُبقي الباب مفتوحا أمام الحلول. وبدا أنه يبغي أمرين: وضع حد للمعاناة وللدمار. وحفظ ماء الوجه للعدو الذي يحاربه، ليحفظ له خط الرجعة. أما نظيره الفلسطيني، فبسبب نقص لغوي؛ نقص في الأفكار، بل نقص في الحس والمشاعر، فقد اختار أن يتوقف عند جملتين، كما لو أنهما الحائط الأخير. إنما لكي يتفاوض عليهما، ويهدم الحائط على رأس شعبه.
هل سمعت عباس يوما يقول إن أي اتفاق للتسوية يجب أن يُعرض على استفتاء، ليقول الشعب الفلسطيني رأيه فيه؟
لم يفعل. هل تعرف لماذا؟ لأنه هو الشعب الفلسطيني. لا يوجد لدى عباس شعب آخر سواه. كما لا يوجد من تستحق استشارته أو أخذ رأيه.
زيلينسكي رئيس يقوم بإدارة نظام، وفقا لقواعد النظام. ويعرف حدوده. يحاول أن يقدم أفضل ما يستطيع من خيارات. إلا أنه لا يملك تقديم تنازلات مجانية. ولا يملك أن يقرر بالنيابة عن شعبه.
عباس يُفصّل ويلبس على هواه. وكأن القضية الفلسطينية مُلكه. يفصل القوانين في يوم، ويصدر مراسيم لإلغائها في يوم آخر. يتفاوض مع “الفصائل” على انتخابات، ثم يلغيها. يعرف أنه لا يحظى بدعم شعبه، ثم لا يكتفي بالكرسي، بل يتغطرس به.
رجل يخاف من رأي شعبه فيه، كيف يعود إليه ليستشيره في شأن يتعلق بتقرير المصير؟
لديه جملتان يتفاوض عليهما. هذه هي كل القضية. يقولهما ثم يذهب لينام.
لا تعرف كيف يمكن لقضية يقودها كسول، متثاقل، متثائب، أن تحظى بأي اهتمام. وبينما تهاجر النساء والأطفال في أوكرانيا ويبقى الرجال لكي يقاتلوا الاحتلال، فقد أورث الرئيس عباس شعبه وضعا يهاجر فيه الرجال والشباب، لكي تبقى النساء والأطفال تحت الاحتلال.
حتى الكوميديا السوداء لا تستطيع أن تطال ما يفعله عباس بقضية شعبه. وهو فقط يطلب المساعدات. هذا هو كل ما بقي. وهو كل ما أُهدرت من أجله الدماء والأجيال.
عباس لم يلتقط الفرصة ليقيم المقارنة ويستحث الضمائر على أن تُعامل الأراضي الفلسطينية المحتلة كما تُعامل أوكرانيا، وأن يُعامل الاحتلال الإسرائيلي كما يُعامل الاحتلال الروسي
وحتى عندما اندلعت الأزمة في أوكرانيا لم يلحظ الرئيس عباس ولا فريق المتثائبين من حوله، أنها لحظة مفارقة تاريخية بين احتلال واحتلال. واحد يلهب الحماس والانفعال، وآخر يرفل بالإهمال. واحد تتقاطر له كل قدرات أوروبا، وآخر استنزفه الكسل والترهل.
ولقد فشل عباس في إدانة الاحتلال الروسي، لأنه لم يلتقط الفرصة ليقيم المقارنة ويستحث الضمائر على أن تُعامل الأراضي الفلسطينية المحتلة كما تُعامل أوكرانيا، وأن يُعامل الاحتلال الإسرائيلي كما يُعامل الاحتلال الروسي. عبقريته السوداوية هي التي أغرته بالصمت.
“الحياد” ربما كان جائزا لكل دولة عربية أخرى تحتفظ بروابط ومصالح مع الطرفين الغربي والروسي. إلا الذي يقع تحت احتلال مماثل. إلا الذي يتعرض شعبه لمظالم كالمظالم التي يتعرض لها الأوكرانيون.
لا تعرف ما هي القيمة الفعلية للاعتراف بدولة ما تزال قيد الأوهام. ولكن الرئيس عباس أضاع الفرصة لإعادة الاستقطاب. كان يجب أن يقول لكل الذين لم يعترفوا بدولته، منذ اللحظة الأولى، إن الوقت قد حان لوضع الحق على نصاب واحد. وأن تكف المعايير عن ازدواجيتها. وأن الاحتلال هو نفسه الاحتلال. وأن يُلهب المشاعر والضمائر من أجل إنهاء المأساتين بذات المكيال. منذ اللحظة الأولى. منذ أن ظهرت المفارقة، التي كان بوسعه أن يجعلها فضيحة. وأن يُجلجل بها ما شاءت الجلجلة.
لم يتحرك في هذا الاتجاه. لم يفكر فيه أصلا. اختار جملتيه المقدستين. تثاءب وذهب لينام.