عشر سنوات على “فجر ليبيا”.. ولا ضوء في آخر النفق

الحبيب الأسود

تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة لاندلاع الحرب الأهلية الليبية الثانية بعد حرب 2011، عندما انطلقت ميليشيات مسلحة ذات مرجعيات عقائدية وجهوية في تنفيذ المخطط الانقلابي المعروف باسم “فجر ليبيا” على نتائج الانتخابات البرلمانية التي شهدت آنذاك هزيمة مدوية لجماعات الإسلام السياسي بعد سيطرتها على مؤسسات الدولة من خلال تمكنها من السلطة بواسطة المؤتمر الوطني العام المنتخب في 2012، والذي جاء في سياق تحوّلات دراماتيكية شهدتها المنطقة في ظل ما سمّي بثورات الربيع العربي، وما آلت إليه في تلك المرحلة من بسط جماعة الإخوان نفوذها على الحكم في تونس ومصر ومراهنتها على سوريا واعتبار ليبيا خزينة المشروع والمصدر الأساس لتمويله.

جاءت تلك الأحداث لتترجم خصوصيات تلك المرحلة، وخاصة من حيث التجاذبات القائمة داخليا وخارجيا، وعلى الصعيد الإقليمي عندما كانت المنطقة خاضعة لحالة من الاستقطاب الحاد بين السائرين في ركاب مشروع الفوضى الخلاقة والساعين لتمكين التيارات الدينية من المسك بمقاليد السلطة على أنقاض الأنظمة المنهارة، وبين المدافعين عن مفهوم الدولة الوطنية المدنية القادرة على استيعاب التناقضات الاجتماعية والثقافية واحتمال الخلافات السياسية من داخل بناء ديمقراطي تعددي يؤمن بمبدأ الاعتدال ويدافع عن روح الاجتهاد ويحافظ على قيمة السيادة في انسجامها الكلي مع ثوابت الأمن القومي.

كانت هناك قوى إقليمية ودولية تعمل بقوة من أجل ضمان سيطرة الإسلاميين على مفاصل الحكم والقرار في ليبيا، لاسيما بعد ثورة الثلاثين من يونيو والإطاحة بحكم الإخوان في مصر، وبعد انتفاضة الشعب التونسي على حكم الترويكا بزعامة حركة النهضة الذي شهدت البلاد خلاله عدة اغتيالات سياسية، كما كانت ترى أن طرابلس برمزيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسيادية يجب أن تبقى في صف الربيع العربي حتى لا ينتهي مشروع التغيير الشامل الذي كان يستهدف المنطقة دون أن يحقق أهدافه.

 

بعد 18 يوما من تنظيم انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو 2014، تمّ الكشف عن تشكيل منظومة “فجر ليبيا” باعتبارها تحالفا لجماعات متشددة من بينها درع ليبيا الوسطى، وغرفة ثوار ليبيا في طرابلس وميليشيات تنحدر أساسا من مدينة مصراتة إضافة إلى ميليشيات إخوانية من غريان والزاوية وصبراتة، كانت تنشط ضمن بناء عقيدة سياسية وميليشياوية موحدة تأسست على فكرة الفئة الغالبة الأحق بوضع يدها على البلاد كغنيمة تم الاستحواذ عليها مباشرة بعد تدمير مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية بسلاح الناتو والحلفاء الدوليين في العام 2011، ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، فإن تلك الميليشيات أصبحت وحدها التي تصول وتجول وتحتكر العنف وتسيطر على السلاح وتري أنها الأقدر على تصدير من تعتقد أنه الأقدر على إدارة الشأن العام والأجدر بتمثيلها في سدة الحكم.

في 13 يوليو 2014، شنت “فجر ليبيا” هجومها الإجرامي بهدف الاستيلاء على مطار طرابلس العالمي وعدد من المعسكرات في المناطق المجاورة التي كانت خاضعة لسيطرة ميليشيات من الزنتان أعلنت انضمامها للجيش الليبي بعد إطلاق الجنرال خليفة حفتر معركة “الكرامة” في منتصف مايو من ذلك العام بهدف تحرير مدينة بنغازي ومدن شرق البلاد من الجماعات الإرهابية والميليشيات الخارجة على القانون التي تعتبر امتدادا لنظيرتها العابثة بالوضع الأمني والمشهد السياسي في طرابلس.

أدّت حرب فجر ليبيا إلى تكريس حالة الانقسام التي لا تزال سائدة إلى اليوم، وشهدت جولة ثانية من الصراعات الدموية في العام 2019 بنفس الأدوات ومن أجل نفس الأهداف تقريبا، وعرفت البلاد خلال تلك السنوات سقوط الآلاف من القتلى وتهجير عشرات الآلاف من السكان المدنيين ووقوع المئات ضحايا للاختفاء القسري، وتحولت أجزاء من ليبيا إلى مواطن للإرهاب ومراكز لسيطرة تنظيمي “القاعدة” و”داعش” وفي الأثناء ضاعت مئات المليارات من الدولارات من خلال النهب والإسراف والتبديد الممنهج، وتعرّضت حقول وموانئ النفط إلى الإغلاق في خمس مناسبات، وتمّت عرقلة كل محاولات الحل السياسي والمصالحة الوطنية، وإلى اليوم لا يزال غرب البلاد خاضعا للميليشيات المحلية وللقوات الأجنبية والمرتزقة الأجانب، في ما تحوّل شرق البلاد إلى حكم الأسرة وفق نظام عسكري غير قابل للاختراق.

تخضع ليبيا اليوم لتحديات عدة، أبرزها عجزها على تنظيم انتخابات تعددية وديمقراطية وشاملة تحظى بالاعتراف الداخلي والخارجي وقادرة على تحقيق التداول السلمي على السلطة، وهو ما تأكد بعد ديسمبر 2021 عندما كان اهتمام المجتمع الدولي تركّز على تنظيم الاستحقاق الرئاسي والبرلماني، ولكن دون جدوى.

الحكم في ليبيا من الناحية الفعلية منقسم بين قوات الجيش بقيادة الجنرال خليفة حفتر في حوالي 70 في المئة من الأراضي الليبية، وبين تحالف الميليشيات المسيطرة على غرب البلاد بدعم مباشر من القوات التركية الفاعلة على الأرض والقوى الغربية التي ترى أن استمرار الوضع على ما هو عليه أفضل من مجيء من لا تضمن تبعيته لأوامرها ولا خدمته لمصالحها سواء عبر صندوق الاقتراع أو صندوق الذخيرة.

في صدارة المشهد السياسي، هناك مجلس النواب المنتخب منذ عشر سنوات، والذي غادره الكثير من أعضائه سواء بالمقاطعة أو الاستقالة أو الوفاة، ولا تزال لوجوده تكاليف باهظة، ربما أخفها حملا ووطأة هي التكاليف المالية التي بلغت في النصف الأول من العام الجاري 353 مليون دينار (أي حوالي 83 مليون دولار أميركي)، بالإضافة إلى المؤسسات الملحقة به والتي لا تمثّل في أغلب الأحيان غير أداة لصرف المزيد من المال وتبديد المزيد من الوقت وفق مشيئة المستشار عقيلة صالح.

أما مجلس الدولة فإن أعضاءه تم انتخابهم منذ العام 2012 لعضوية المؤتمر الوطني العام الذي كان قد تم إقراره كجمعية تأسيسية لصياغة شكل الدولة الجديدة بعد الإطاحة بنظام القذافي، ولكنّ الإخوان والسفليين وحلفاءهم حولوه إلى مؤسسة لتمرير قرارات ومصالح أمراء الحرب وقادة الميليشيات، ولخدمة أهداف الدول الإقليمية المتصارعة على النفوذ في البلد الثري الواقع في شمال أفريقيا، ولتأمين التوازنات بين حسابات وأجندات الدول الكبرى التي يبحث كل منها عن نصيبه من الغنيمة.

عندما رفض المؤتمر الوطني العام الاعتراف بنتائج انتخابات 2014، وبالتالي بمجلس النواب المنتخب والسلطة المنبثقة عنه، وفي ظل استمرار الحرب الأهلية، انطلقت المفاوضات الأقرب إلى مساومات بين الفرقاء، وبتدخل مباشر من الأطراف الخارجية، لتنتهي إلى التوقيع على اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 بما مثله من تكريس لحالة الانقسام وذلك عبر إعادة تدوير تيار الإسلام السياسي في مجلس كان من المفترض أن يكون استشاريا قبل أن يتم تحويله إلى شريك في السلطة التشريعية وإلى مجرد أداة لتحقيق التوازن بين مصالح القوى الخارجية في البلاد.

وأما المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، فهما نتيجة قائمة واحدة ترشحت لمؤتمر الحوار السياسي الذي كان انطلق من تونس في نوفمبر 2020 بمبادرة من الدبلوماسية الأميركية المخضرمة ستيفاني ويليامز التي كانت تشغل آنذاك منصب الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، وفتح المجال لتشكيل سلطة انتقالية وفق آلية شابتها الشكوك حول نزاهتها منذ البداية واخترقها عبث الفاسدين بتصريحات علنية قبل تنظيم جولة جنيف في أوائل فبراير  2021 التي كان للمال الفاسد دور مهم في تحديد مساراتها.

كان من المنتظر أن ينحصر دور تلك السلطة الانتقالية في تهيئة الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات المقررة للرابع والعشرين من ديسمبر 2021، وفي أقصى الحالات فإن مدة شرعيتها لا تتجاوز 18 شهرا، لكن مرت الأيام والأشهر والأعوام ولا تزال حكومة عبدالحميد الدبيبة تسيطر على مقاليد الحكم في غرب البلاد ويطمح رئيسها للبقاء سنوات أخرى بالاعتماد على سلاح الميليشيات ودبلوماسية الصفقات واللعب على حبل التوازنات بين القوى الدولية النافذة.

والحقيقة أن المجتمع الدولي يدرك جيدا أن الفساد ينخر مفاصل السلطات التنفيذية والتشريعية في ليبيا، وأن القائمين عليها يمارسون كل أشكال التحايل والنصب على الشعب، ويعتمدون الخداع في تمرير أسباب افتراضية لبقائهم في السلطة، ولعل أهم ما يميزهم هو نهب المال العام الذي تحدث عنه غسان سلامة، واستعدادهم لخيانة وطنهم بهدف ترضية الأجنبي كما قالت ستيفاني ويليامز التي اعتبرتهم ديناصورات، ووصفهم عبدالله باتيلي بأنهم أنانيون وعقولهم متحجرة ويغلّبون مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد.

عشر سنوات مرت على انقلاب فجر ليبيا وحربها الدامية، ولا يزال الوضع يهدد بالانفجار في كل لحظة، ولا تزال التدخلات الخارجية تحول دون جمع الليبيين تحت سقف المصالحة، ولا تزال مصالح الأفراد فوق مصالح الدولة والمجتمع. عشر سنوات ولا ضوء يبدو في آخر النفق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى