علمانيون في ركاب الإخوان
الحبيب الأسود
لم يعد مستغربا الحديث عن تحالف اليسار الراديكالي مع الإسلام السياسي، تماما كما لم يعد مستغربا أن ترعى الليبرالية الغربية قوى التشدد الديني في منطقتنا وتجعل منها فرس الرهان على تحقيق الديمقراطية، فالمسألة ترتبط أساسا بمحاولة كل طرف الاستفادة من الطرف الثاني ومن مساحات تحركه سواء بين النخب أو في قاع المجتمع.
في تونس اليوم، تتحالف قوى يسارية مع أخرى يمينية دينية في مواجهة التدابير الاستثنائية المتخذة من قبل الرئيس قيس سعيّد، والتي ينعتونها بالانقلاب على الشرعية والدستور، مشهد الحوار الودي بين شيخ اليسار الماركسي عزالدين الحزقي مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أكد بقوة الفصاحة اللغوية وإشارات الحركة البدنية أننا أمام تحالف غير مقدس بين تيارين يفترض أنهما متناقضان في الفكر والعقيدة والرؤية والتوجه والتطلعات السياسية والاقتصادية والثقافية وفي نظرة كل منهما إلى المجتمع، ولاسيما في العلاقة بالحريات العامة والخاصة.
عندما كانت حركة النهضة في قلب السلطة، كانت جيوشها الإلكترونية تقوم حملاتها اليومية لتكفير اليسار التونسي ووصمه بالعمالة لفرنسا واعتباره عدوا للإسلام والعروبة، وملاحقته بكنية “صفر فاصل” التي كانت تطلقها على تياراته وزعاماته بالاعتماد على نتائجها في الانتخابات.
في الثامن عشر من أكتوبر 2005 اجتمع ناشطون وقيادات من الإخوان واليسار معا تحت خيمة إضراب عن الطعام في مواجهة النظام القائم آنذاك وبهدف تشويه صورته قبيل احتضان البلاد لمؤتمر القمة العالمية للمعلومات. لم تكن سمعة تونس الخارجية تهم تلك الأطياف من المعارضة التي لا يهمها إلا الصراع على الحكم، والتي كانت مرتبطة بالسفارات الأجنبية وبالمنظمات العاملة في السياقات الحقوقية وضمن مخطط كان الهدف منه الإطاحة بالأنظمة الوطنية في المنطقة.
ما حدث في تلك المرحلة لم يكن بعيدا عما عرفته البلاد في أواخر أيام نظام بورقيبة وفي بداية التسعينات ضد نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، يمكن القول إن بوصلة المعارضات التونسية عموما كانت تتحرك في اتجاه واحد وهو العمل ضد النظام، ومن ثمة ضد مؤسسات الدولة ككل، وصولا إلى صراع مع المجتمع، وهو ما انعكس على ما بعد 2011 عندما تبين أن تلك القوى السياسية التي كانت تدعي امتلاك البديل، والقدرة على توفير الحلول الملائمة لكل الأزمات مع حماية المسار الديمقراطي فشلت في كل رهاناتها، وحاولت تبرير ذلك سواء بثقل حجم إرث دولة الاستقلال، أو بفقدانها تجربة التعامل مع إكراهات الحكم، وبتعرضها للتآمر من الداخل والخارج، وغيرها من المسوغات التي لم تدفع بالبلاد إلا نحو المزيد من تفاقم الأزمات على كل الأصعدة.
ربما أصيبت تونس لعقود عدة بنخب معارضة يمكن ترتيبها على أنها من أسوأ المعارضات على الإطلاق، وهو ما قد يعود إلى انفتاح بعضها الواسع على الدوران في فلك المصالح الغربية، وتبعية بعضها الآخر المنبهر بأنظمة الشرق العقائدية الاستبدادية، وافتقادها في العموم إلى فكرة ومنطلق وثقافة التعامل مع الدولة، وجميعها مسائل أثّرت على الوضع العام في البلاد بعد الإطاحة بنظام بن علي الذي كان امتدادا لنظام الدولة الوطنية.
من مؤشرات ذلك الواقع أن التيار الذي كان يعتبر نفسه ديمقراطيا ليبراليا وتقدميا علمانيا ووطنيا تونسيا بأفق إنساني واسع، سقط في فخ الشعارات الفضفاضة المرفوعة من قبل الإسلاميين، وتحول إلى أداة يستعملها الإخوان في إقناع القوى الخارجية بأنهم أحد العناوين الأصيلة داخل المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد، وأنهم مناضلون حقيقيون من أجل القيم الديمقراطية، بل أنهم مسلمون ديمقراطيون كما بات يزعم قياديو النهضة تنفيذا لتوصيات حلفائهم في واشنطن، وأنهم يخوضون معركة الشعب والمجتمع في سبيل التصدي لأية محاولة للرجوع بالبلاد إلى مربع الاستبداد والدكتاتورية، وفق تقديرهم.
ومن هذا المنطلق، تحول جزء مهم من اليساريين في تونس إلى عرّابين للإسلام السياسي وداعمين لمخططاته التمكينية ومشاريعه الاستحواذية في إطار وضع اجتماعي صعب، ولكن بالمقابل، وبينما تخلى الشارع التونسي عن حركة النهضة، تحركت قوى يسارية لإضفاء البعض من الشرعية على التيار الإخواني وتلميع صورته، مقابل العمل على تصوير الرئيس سعيّد في ملامح المستبد الزاحف بقوة لتكريس دكتاتوريته الجديدة التي لم تعرف البلاد لها مثيلا من قبل.
والحقيقة أن الرئيس سعيّد نفسه ليس بعيدا عن الإسلام السياسي وقد يكون انعكاسا لبعده الاجتماعي، وصراعه مع حركة النهضة ليس عقائديا كما يحسب البعض، وإنما هو سياسي بالأساس، ومرتبط بآليات الصراع على الحكم، وبالمنافسة التي كانت بينه وبين راشد الغنوشي على إدارة ملف العلاقات الخارجية، ولو نظرنا قليلا إلى اليساريين المحسوبين على مشروع سعيّد، لوجدنا أنهم قد يكونون نواة للتقارب الفعلي مع الإخوان ضمن إطار التحولات التي تشهدها المنطقة ومن بينها التحالفات القائمة لإعادة تحديد العلاقة مع الدولة بل وإعادة تشكيل ملامح الدولة ذاتها بما يقطع مع دولة الاستقلال التي يجمع اليساريون والإسلاميون على إبداء العداء لها.
في هذا السياق، يبدو الحزب الدستوري الحر بزعامة عبير موسي حالة استثنائية في المشهد السياسي المحلّي، حيث يكاد يكون الحزب الوحيد المتجذر في الهوية الوطنية بجميع تفاصيلها الدقيقة اجتماعيا وثقافيا، وغير خاضع للمشاريع الأيديولوجية الوافدة، وهو منذ تأسيسه على يد عبدالعزيز الثعالبي في العام 1920 وتجديده على يد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في العام 1934، وتزعمه لمعركة التحرير الوطني وصولا إلى إدارته لشؤون الحكم في دولة الاستقلال منذ العام 1956، مثّل حاضنة للإصلاح ضمن خصوصية تونسية لم تتجاوز حدودها الإقليمية إلا غربا في إطار الحلم المغاربي الذي كان في بدايات تبلوره يقتصر على تونس والجزائر والمغرب.
فقد كان هذا الحزب وباعتباره يمثّل رمزية الدولة وهويتها الوطنية عرضة للشيطنة المستمرة من قبل القوى السياسية المرتبطة بأيديولوجيات وافدة ضمن عوائل ثلاث هي الشيوعية والقومية والإسلامية بمختلف تفرعاتها، والتي ورغم أنها ليس في مرجعياتها وتجاربها ما يوحي بتبنيها لخيارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها رفعت شعارات بذلك في مواجهاتها المفتوحة مع النظام، واعتبرت حتى مخططاتها الفوضوية ومشاريعها الانقلابية وحركات التمرد التي سعت لتنفيذها إرهاصات لحركة ثورية تقاوم الاستبداد وتبشّر بعصر الحريات، وهو ما تضمنه التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في محاكمتها الموجهة ضد الدولة الوطنية والتي تم تنظيمها برؤية وروح وعقيدة القوى التي تعتبر نفسها قد انتصرت بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في يناير 2011.
اليوم يجد حزب عبير موسي نفسه وحيدا في مواجهة المد الإخواني، بينما كانت أجهزة الدولة التي يتزعمها الرئيس سعيّد تفض خيمة اعتصامه أمام مقر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لتمنعه من مواصلة حملته المنادية باجتثاث المشروع التكفيري والمعادي للنموذج المجتمعي الذي حددته الدولة الوطنية، وبالمقابل تضع القوى اليسارية يدها في يد الإخوان دون أن تنسى التأشير على أنها رمز للعلمانية والحداثة، فيما سيكون على عموم التونسيين تحديد موقفهم من وضع لا يزال يعد بالمزيد من التأزم، وذلك للرد على فشل النخب السياسية في تحديد مسارات الواقع المشوب بالتناقضات، والذي تحوّل فيه التقدميون والحداثيون إما إلى طابور خامس للإخوان أو إلى جماعات معزولة لا أمل لها في أي دور مستقبلي سواء في الحكم أو حتى في المعارضة.