فصل المقال في ما بين البرنامج الوطني والنقاط العشر من انفصام!
ماجد كيالي
فجأة بات بعض دعاة حلّ الدولتين، أو بالأصحّ حل الدولة في الضفة والقطاع، يتّخذون استراتيجية الهجوم كخير وسيلة للدفاع في محاولاتهم نفي حقيقة انسداد هذا الخيار، الذي تم تبنّيه قبل 47 عاما (في برنامج النقاط العشر 1974)، بادعاء أن تلك الدولة قائمة، ولكنها تحت الاحتلال! وفي الواقع فإن ذلك الادعاء ينطوي على مكابرة وعلى إنكار للواقع، وكأن أصحابه يركبون وهما على وهم آخر، أي وهمهم السابق بشأن إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة بواسطة المفاوضات على وهم جديد يحسم وجود تلك الدولة بحكم قرار أممي يعترف بفلسطين (كدولة عضو مراقب)، مع علمنا بأن الأمم المتحدة اعترفت بأشياء كثيرة للفلسطينيين لكنها ظلّت حبرا على ورق، وعلما أن اتفاق أوسلو، وهو في مرتبة أقل من حل الدولة المستقلة، لم تنفذ منه إسرائيل سوى الشق المتعلق بحكم ذاتي للفلسطينيين، في بعض أراضي الضفة، بعد 28 سنة؛ وحتى في هذا الشأن فثمة تفصيل بسيط يتعلق بأن تلك الدولة تحتاج، أيضا، إلى التحرر من الاحتلال!
على أية حال، فإن النقاش هنا يتعلق بشكل أساسي بالادعاء المتمثل باحتكار، وبحصر، فكرة البرنامج الوطني بحل الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع، علما أن مثل ذلك الادعاء ينطوي على مخاتلة وغبن، بشأن تمثيل الفلسطينيين وتمثّل قضيتهم وحقوقهم وسرديتهم التاريخية المؤسسة لهويتهم الوطنية.
على ذلك ثمة دفوعات عديدة يمكن طرحها في هذا المجال، أهمها:
أولا، إن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت أصلا قبل احتلال الضفة والقطاع، وكانت هاتان المنطقتان خارج السيطرة الإسرائيلية، ومع ذلك فإن تلك الحركة، التي كان هدفها تحرير فلسطين وعودة اللاجئين، لم تطالب بإنشاء دولة أو سلطة فيهما. لذا فكيف يمكن توصيف الهدف الوطني آنذاك، والذي كان وراء انطلاق تلك الحركة؟
ثانيا، لم يأت الانزياح من برنامج التحرير إلى برنامج إقامة دولة في الضفة والقطاع نتاجا لتطور في الفكر السياسي الفلسطيني، بقدر ما أتى نتيجة ضغوط عربية ودولية، ونتيجة قابلية فلسطينية للتماثل مع النظامين العربي والدولي بثمن الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني (حصل ذلك ثانية لدى التوقيع على اتفاق أوسلو).
ثالثا، إن التحول الحاصل لم ينبن على فكرة دحر الاحتلال بوسائل الصراع المباشر، الشعبي أو المسلح، وإنما انبنى على وهم استجابة إسرائيل إلى ذلك، بعد حرب أكتوبر (1973)، وبنتيجة وجود الاتحاد السوفييتي، فإذا كان ذلك لم يتحقق إبان كان العالم في عهد القطبين، وفي مرحلة كان ثمة فيها حدّ أدنى من التضامن العربي، وفي ظل وجود كفاح مسلح فلسطيني في أعلى درجاته (أواسط السبعينات)، فكيف سيتحقق في هذه الظروف الدولية والعربية والفلسطينية؟
رابعا، ثمة سؤال يطرح بشأن ما البديل عن ذلك؟ أو هل كان بالإمكان تحرير فلسطين؟ في الإجابة عن هذا وذاك، أظن أنه ثمة سذاجة بالاعتقاد أن التحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة دولة في جزء من فلسطين أخّر عملية التحرير، لكن العكس صحيح أيضا، فإن استمرار التمسك بهدف التحرير، أو هدف الدولة الديمقراطية في كامل فلسطين، لن يؤخر إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، أو في أي شبر، لو توفرت الإمكانية لذلك حقا.
خامسا، الفكرة هنا، تبعا لثالث ورابع، أن الفلسطينيين كانوا معنيين أكثر بالحفاظ على سرديتهم الوطنية الجمعية، المؤسسة لهويتهم الوطنية، ولاجتماعاتهم السياسية، التي تنطلق من حدث النكبة (1948)، لأن التخلي عن تلك الرواية، والتحول نحو رواية أخرى، ونحو هدف آخر، جرى بشكل مجاني، ومن دون تحقيق أي شيء، ما يعني أن حظ أي خيار يكون مثل غيره، طالما أن الفلسطينيين غير قادرين على تحقيق هذا الهدف أو ذاك الهدف، أو طالما أن إسرائيل لن تستجيب لحقوقهم على أي مستوى، بواسطة المفاوضات، ولن يضغط أحد عليها في سبيل ذلك.
سادسا، ما يفترض لفت الانتباه إليه جيدا في هذا الأمر، وتبعا للبند السابق، أن التحول من رواية 48 إلى رواية 67، أي إلى هدف إقامة دولة في جزء من الأرض لجزء من الشعب، مع جزء من الحقوق، هو الذي أدى إلى أول انقسام في وجدان الشعب الفلسطيني وفي إدراكاتهم السياسية وفي حركتهم الوطنية، أي إنه هو الذي أسس إلى تصدع وحدة الشعب الفلسطيني، وإجماعاته الوطنية، وهو الذي سهّل الانتقال إلى اتفاق أوسلو (1993).
سابعا، ما حصل بيّن، أيضا، افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية للإطارات الشرعية، ولمراكز صنع القرار، وكشف تفرد القيادة باتخاذ القرارات، ومن ضمن ذلك كيفية هندستها لما يسمى الشرعية الوطنية الفلسطينية، إذ لم يجر تبني تلك النقلة بطريقة طبيعية، أي عبر الحوارات والمؤتمرات، وإنما تم بطريقة فوقية وتعسفية، تماما مثلما تم فرض اتفاق أوسلو من خلف الأطر الوطنية الشرعية، ومن خلف الشعب الفلسطيني، ما يبين كم إن القيادة الفلسطينية متحررة إزاء شعبها، وكم هي متماثلة مع النظامين العربي والدولي، وهو أمر طبيعي لكونها لا تخضع لعملية انتخاب، وكونها تعتمد في مواردها على الخارج، الأمر الذي تفاقم بعد الخروج من لبنان، وبعد الافتقاد لما يسمى “الشرعية الثورية”.
على أية حال، كانت تلك الأفكار بمثابة نوع من شهادة كنت ناقشتها مع الأكاديمي الصديق رائف زريق (من فلسطينيي 48)، وفي محاولة لتصفية حساب مع المنهج الذي فرض “النقاط العشر”، منذ 47 عاما، وحاول الترويج له باعتباره برنامجا للإجماع الوطني، رغم ما ينطوي عليه من مصادرة لمفهوم الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وهي الفكرة المركزية التي يعمل “ملتقى فلسطين” على إعادة الاعتبار إليها.
وربما يفيد أن أختم هنا بملاحظات توضيحية، الأولى، إن أي حل يفترض أن ينطلق من قاعدتي الحقيقة والعدالة (ولو النسبية)، بمعزل عن أية اعتبارات أخرى، لا موازين قوى ولا ظروف أو ضغوط دولية، وبالارتكاز على حق الشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده في أرضه. وثانيتهما، إن أية وجهة نظر سياسية لا يجب أن تستنزف قوى الفلسطينيين لأنهم أصلا لا يستطيعون فرض أي حل، في المدى المنظور، مهما كان مستواه أو حدوده، ولاسيما أن تحديد شكل الدولة لخيار ما مرهون بالمستقبل ومعطياته، وهو يتطلب تقويض أو تفكيك البنية الاستعمارية الاستيطانية العنصرية لإسرائيل طبعا. وثالثها، إن الأولوية في هذه المرحلة هي لبناء البيت الفلسطيني، فالفلسطينيون اليوم يفتقدون لكيان سياسي جامع، يعبر عن قضيتهم بشموليتها، ويمثلهم، كلهم، ويقود كفاحهم. أيضا الأولوية لبناء البيت، إذ لا يمكن الحديث عن الصمود والمقاومة، دون الاشتغال جديا على بناء البيت.