فصل جديد مع القضية الفلسطينية!
لا تنفك «القضية الفلسطينية» تطل علينا بقسوة، وأحيانا قليلة بما يسعد. مصر كتب عليها أن تكون ليس فقط قريبة من القضية بحكم موقعها الجغرافى، وإنما أن تكون جزءا منها. من الناحية النظرية فإن علاقة مصر بالقضية الفلسطينية دارت فى إطار مفهومى «التاريخ» و«الاستراتيجية». هنا فإن التاريخ هو عملية تطورية تتداخل فيها مئات، بل آلاف العناصر الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية، التى تتفاعل مع بعضها البعض لكى تنتج بعد ذلك واقعا مختلفا عما كان. وقد اختلف المؤرخون وعلماء الاجتماع والمفكرون والفلاسفة حول أهمية العناصر وأكثرها فاعلية فى تحريك المجتمعات من نقطة إلى أخرى، لكنهم جميعا اتفقوا على ألا شىء يبقى على حاله، وأن التغيير والانتقال من نقطة إلى أخرى هو من سنن الكون حتى عندما توصف مجتمعات بالجمود. هى عملية طويلة المدى، قد يسرعها تطور تكنولوجى، أو ثورة عارمة تكون أشبه بعملية تسخين عناصر المادة حتى تتفاعل بسرعة أكبر وتتحول إلى وضع جديد. الاستراتيجية على الجانب الآخر هى عملية إنسانية محضة تتعلق بوسائل الانتقال ما بين الموارد والأهداف فى ساحة بعينها، وبدايتها تعريف وتحديد المصالح المراد وقايتها أو حمايتها ووضعها فى صورة نقاط بعينها يراد الوصول إليها فى فترة زمنية محددة، ومن ثم يمكن الحديث عن الاستراتيجية العسكرية أو الأخرى الاقتصادية، وهكذا. ولذا فإن التاريخ يقيّم حسب المرحلة أو الزمن الذى يصل إليه من تقدم أو تراجع، أما الاستراتيجية فإن تقييمها عنوانه النجاح أو الفشل.
تاريخ القضية الفلسطينية بدأ فى عام ١٨٩٧ عندما انعقد المؤتمر الصهيونى الأول فى بازل بسويسرا، وفيه عرض تيودور هرتزل أفكار كتابه «الدولة اليهودية» على المؤتمر والتى ركزت على أن اليهود من ناحية يمثلون «مسألة دولية» ناجمة عن معاداة السامية الكامنة فى المجتمعات الغربية، وأنه طالما أن اليهود يمثلون «قومية» متميزة، فإن حل إشكالية العداء لليهود يكون من خلال قيام دولة يهودية فى فلسطين، حيث يوجد التراث التاريخى لليهود. منذ ذلك الوقت وعلى مدى المائة وعشرين عاما تقريبا التالية تشكل تاريخ «القضية الفلسطينية»، حيث توالت الهجرات اليهودية إلى فلسطين خلال الحكم العثمانى لفلسطين، ثم فترة الانتداب البريطانى بعدها، حتى قامت دولة إسرائيل فى عام ١٩٤٨. من وقتها قام «الصراع العربى الإسرائيلى» ممثلا فى حروب ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، ومن بعدها استمر «الصراع الفلسطينى الإسرائيلى» الذى أخذ شكل «المقاومة الفلسطينية» للاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة وهى الأراضى التى جرى احتلالها عام ١٩٦٧. ونظريا فإنه اعتبارا من توقيع اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية فى عام ١٩٩٣ بدأت مرحلة جديدة تداخل فيها الصراع والسلام بين طرفين.
وفى وقتنا هذا فإن «الاستراتيجية» لا تعنى إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء والقيام بعملية تصحيح تاريخية لقيام الدولة الإسرائيلية، وإنما العمل من أجل تجسيد حل الدولتين الذى نجم عن اتفاقيات أوسلو، وهو الهدف الذى بات عليه توافق دولى من قبل الأطراف الرئيسية فى النظام العالمى. ورغم هذا التوافق فإنه لا يبدو سريع التحقيق، والاستراتيجية بشأنه لابد لها من مراعاة المصالح المصرية المباشرة الناجمة عن التهديدات المتولدة عن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى الذى أخذ سلسلة من الحروب المتوالية التى تجرى بين الطرفين ومسرحها فى قطاع غزة والضفة الغربية وجميعها شكلت تهديدات مباشرة لمصر، سواء كان ذلك ذا طبيعة «جيو سياسية» أو «جيو اقتصادية».
خلال السنوات العشر الماضية ركزت مصر على عملية البناء الداخلى وحققت فيها نموا إيجابيا رغم الظروف المعاكسة للإرهاب وجائحة الكورونا والحرب الأوكرانية والأزمات الكبرى فى الجوار الإقليمى فى غزة والسودان وليبيا واليمن. ونجحت مصر فى تجنب التورط فى صراعات خارجية، وعلى العكس فإنها أدخلت إلى المنطقة مفاهيم مثل «الدولة الوطنية» و«التعاون الإقليمى» الذى أخذ أشكالا غير معتادة مثل منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط. وفى أزمة غزة الحالية فإن الإدارة المصرية الرشيدة حققت نجاحا كبيرا فى منع التهجير القسرى للفلسطينيين إلى سيناء، وفى عقد مؤتمر للسلام فى وقت الحرب خرج منه بيان للدول العربية التسع، ممثلة لدول مجلس التعاون الخليجى الست، وكل من مصر والأردن والمغرب. هذه الدول تجمعها ثلاثة أمور: أولها أنها دول اختارت طريق الإصلاح والتنمية باعتباره الطريق الاستراتيجى للتقدم. وثانيها أن هذه الدول فى هذا الإطار الإصلاحى تسعى إلى تحقيق الاستقرار الإقليمى حتى توفر الظروف الملائمة للاستثمار والسياحة والاستفادة من أوضاعها الجيوسياسية. وثالثها أن ستا منها وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، أو أنها تسعى لإقامة علاقات طبيعية معها علنا (السعودية) وبشكل غير مباشر (قطر وعمان). مثّل بيان الدول التسع أول معالجة شاملة للأزمة وتطور بعد ذلك إلى مبادرة مصرية شاملة أصبحت تقريبا هى الأساس للمبادرات الدبلوماسية سواء من قبل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية.
على الجانب الآخر مما سبق فإن حرب غزة لاتزال مستعرة، كما أن إسرائيل لم تصرف النظر بعد بشكل كامل عن سعيها نحو تهجير الفلسطينيين كرها أو طوعا مما يجعل التهديد للأمن القومى المصرى قائمًا. ومن ناحية أخرى فإن الحرب لاتزال تهدد بالتصعيد البادى على الجبهات السورية واللبنانية، أضيف إلى ذلك ما قامت به جماعة الحوثيين فى اليمن من تهديد الملاحة والتجارة الدولية فى البحر الأحمر المؤدى إلى قناة السويس، مما أدى إلى تدخل الولايات المتحدة مع عدد من الدول الأخرى والاشتباك العسكرى مع الحوثيين. هذا التهديد الإضافى للأمن القومى المصرى يقود إلى ضرورة مضاعفة الجهد من أجل الدفاع عن المصالح المصرية العليا من خلال استراتيجية «متوازنة»، الخطوة الأولى فيها إطلاق دعوة للطوارئ والحالة الاستثنائية فى المؤسسات المصرية لدى الجهاز التنفيذى للدولة والمؤسسات التشريعية، هى حالة من استنفار الأمر الواقع داخل مصر للتعامل مع أوضاع حرجة يصعب التنبؤ بمدى عمقها وما تأتى به من مفاجآت من ناحية، والحفاظ على حالة الاستمرار فى البناء العمرانى والنمو الاقتصادى مع تعميق الحوار الوطنى فى الحالات الحادة من الصدام حتى تظل الوحدة الوطنية قوية وقادرة على مواجهة جماعات الإسلام الراديكالى والتطرف اليسارى التى سوف تحاول دوما استخدام حرب غزة الخامسة لتهديد وتفكيك الداخل المصرى. والخطوة الثانية أن الحرب بدأت حربا إقليمية من خلال تحالف إقليمى مكون من إيران والمليشيات المتحالفة معها مثل الحشد الشعبى العراقية، والحرس الثورى الإيرانى فى سوريا، وحزب الله اللبنانى فى لبنان وسوريا، والحوثيين فى اليمن، وتنظيم حماس الفلسطينى. هذا التحالف استغل القضية الفلسطينية فيما سبب ضررا بالغا للشعب الفلسطينى بإطلاق كافة الأرواح الشريرة لدى إسرائيل وتهديد الأمن الإقليمى بوسائل شتى. تحقيق توازن القوى مع هذا التحالف لا يكون إلا ببناء تحالف مقابل من قوى الإصلاح وبناء الدولة الوطنية تشكل مصر والسعودية والإمارات حجر الزاوية فيه.