في قول ما ينبغي قوله في الشأن الفلسطيني
ماجد كيالي
منذ غرست في وعي الفلسطينيين قصة المصالحة مع إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، آل مشروعهم الوطني إلى الأفول والتصدّع أو التفكّك.
حصل ذلك في إدراك الفلسطينيين لقضيتهم، أو لروايتهم التاريخية الجامعة التي انتقل مركز ثقلها من ملف 1948 إلى ملف 1967، ومن سردية النكبة إلى سردية الاحتلال، ومن هدف التحرر والتحرير إلى هدف الاستقلال في دولة بـ22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية. كما حصل ذلك أيضا في غياب الإجماع الوطني حول هدف معيّن، بحكم محاولات تخليق إدراكات وأولويات متضاربة للفلسطينيين، بحسب أماكن وجودهم، كأنهم بمثابة شعوب عديدة في واقع تتعامل فيه إسرائيل معهم بالجملة وفق استراتيجية واحدة تقوم على التذويب أو التدجين أو التطويع أو النفي، وإن بسياسات متعددة.
صحيح أن ما تقدم بدأ يحصل مع تبني البرنامج المرحلي (1974) الذي جاء ليس كتطور في الفكر السياسي الفلسطيني ولا كنتاج لواقعية كفاحية، بقدر ما جاء تلبية لشروط خارجية، وللتماثل مع النظامين العربي والدولي، إلا أن ذلك بلغ ذروته مع عقد اتفاق أوسلو (1993) الذي أنهى المشروع الوطني الفلسطيني جملة وتفصيلا بخطاباته وكياناته، رغم بقاء بعضا من روحه وهو ما تجلى في الانتفاضة الثانية، وبسبب وجود الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، مع فهمه لدوره ومكانته ورمزيته التاريخية.
بيد أن الأمر تم حسمه نهائيا بعد الانتفاضة الثانية ورحيل عرفات (أواخر 2004)، وبمجيء محمود عباس الذي أنهى زمن المزاوجة لصالح الارتهان لخيار السلطة والمفاوضة والامتثال، بحيث بات معه يصحّ القول إن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة كانوا قبل إقامة السلطة أكثر وحدة وتحررا وتصميما على مقاومة الاحتلال منهم بعد إقامتها، وهو استنتاج مؤلم.
وفي الواقع ففي هذا العهد تم تهميش منظمة التحرير، وتكرّس الانقسام الفلسطيني، وتحولت حركة فتح إلى حزب للسلطة، وبات الرئيس عباس، الذي أحكم قبضته على السلطتين التشريعية والقضائية أيضا بمثابة الأمر النهائي للمنظمة والسلطة وفتح، ومعه طبقة سياسية مستهلكة ومتقادمة ولم يعد لديها ما تضيفه، ولا يهمّها إلا استمرار هيمنتها للحفاظ على مكانتها وامتيازاتها.
مناسبة هذا الكلام المعطيات التي دعت فيها القيادة الفلسطينية إلى تنظيم الانتخابات، دون أن تعلّل الأسباب التي جعلتها تحلّ المجلس التشريعي السابق، أو التي حالت دون تنظيم انتخابات جديدة طوال عشرة أعوام، أو عدم التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، أو إسقاط تحديد فترة ولاية الرئيس من القانون الجديد، أو منع المشتغلين في الوظيفة العمومة من الترشح (إلا بعد الاستقالة) إلى جانب السؤال عن المحكمة الدستورية وعن مجلس القضاء الأعلى.
وفوق كل ذلك يمكن طرح السؤال عن الإطار السياسي الذي عاودت القيادة الفلسطينية الاشتغال به ضمن سقف اتفاق أوسلو المجحف والناقص والمهين، لاسيما أن استئنافها للعلاقات والتنسيق الأمني مع إسرائيلي جاءا على الضد من قرارات المجلسين الوطني والمركزي.
وفي ذلك فقد جاء مطلب “ملتقى فلسطين”، الذي يضم شخصيات من مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني، بتنحي الرئيس، في محله (في البيان الذي أصدره مؤخرا) بعد كل تلك التجربة وبناء على كل تلك المعطيات وضمن ذلك مصادرة الحريات وتكرّس القيادة الفردية والاستهتار بالمبادئ والأطر والقوانين والمؤسسات الغريبة عن روح الحرية والكرامة، التي تشكّل جوهر نضال الفلسطينيين التحرري ضد إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية العنصرية.
ولعل الفكرة المركزية الثانية في ذلك البيان اللافت، تمثلت في تأكيد “استحالة الفصل بين أزمة الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل) وأزمة المشروع الوطني” وأن “هاتين الأزمتين مرتبطتان بالطبقة السياسية المهيمنة”. أما الفكرة المركزية الثالثة فتكمن في الاستنتاج بأن طريقة إدارة العمل الفلسطيني، ووجود مثل تلك الطبقة هو ما أدى إلى حرف المسيرة الوطنية “بالتحول من حركة تحرر وطني انبنت على وحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية إلى سلطة لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق وانزياح عن الرواية التاريخية المؤسسة، باعتبار أن الصراع بدأ في 1967”.
وفي الواقع فإن إدراكات الفلسطينيين تقف إزاء إشكاليتين، أولاهما واقع هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في صراعها مع إسرائيل، وضرورة الإقرار بذلك لحث الجهود على البحث عن بدائل، علما وأن ذلك لا يعني هزيمة الشعب الفلسطيني، وعلما وأن قيادة تلك الحركة تقر بتلك الهزيمة عمليا، لكن من دون أن تعترف بها أو تصارح بها شعبها.
وثانيتهما، تكييف تلك الحركة نفسها مع واقع إسرائيل وهيمنتها في المنطقة، ما يضع الفلسطينيين إزاء هزيمة مضاعفة، وهو ما يتمثل أساسا بالتكيّف مع سياسات إسرائيل التي تجزّئ شعبنا وتجزّئ حقوقه وتهمّش وجوده.