“كوفيد-١٩” والمليارديرات
د. عبد المنعم سعيد
الأصل في الموضوع أننا في الحديث عن “كوفيد-١٩” أمام أزمة عالمية لا يوجد فيها لا رابح ولا خاسر لأن الجميع فيها خاسرون إما بأرواحهم وهو أحد الاحتمالات وإما بأعمالهم وإما بدخلهم أو إذا لم يكن ذلك معهم بطريقة مباشرة، فإنه سوف يكون نتيجة ما هو قريب منهم في الأسرة أو في العمل أو في تقييد الحرية في الحركة.
هي أزمة ليس فيها لا منتصر ولا مهزوم لأن النصر والهزيمة ليست من التعبيرات التي تخص الفيروس القاتل هي تخص الدول التي تتصارع على مصالح عليا فيها الموارد والأرض والنفوذ والمكانة، ومن الممكن أن تتحول الصراعات إلى حروب وهذه يكون فيها منتصر ومهزوم، ولكن التاريخ قد يكون له وجهة نظر أخرى.
فلا أحد يعرف الآن ومع معرفة حالات الصين واليابان وألمانيا ومكانها في النظام العالمي من الذي انتصر حقا في الحرب العالمية الثانية، ولا من انتصر في حرب فيتنام، وحتى في حربي أفغانستان والعراق. ولكن هذه قضية أخرى على أي حال، تخص الدول وشخصيتها القومية والنظام العالمي بما فيه من سلام أو توتر.
ما يهمنا هنا أن المعركة مع الفيروس هي معركة أخرى تماما، لا يوجد فيها حرب أو سلام، ولا مفاوضات، ولا هدنة ولا مناطق منزوعة التسلح ولا أسواق مشتركة ولا احتلال ولا استقلال. هي معركة أولا تشمل الجنس البشري كله، وثانيا تقع بين الإنسان والطبيعة بكل ما فيها من نشوء وارتقاء واختيار طبيعي.
ومع ذلك فإن الفكر الإنساني لا بد أن يبحث أو بعضا منه على الأقل يهتم بهذه الحالة، عن الفائز والخاسر ومن ازداد غنى ومن ازداد فقرا من جراء الفيروس، هو من باب الفضول في ناحية ولكنه أيضا من باب البحث في أبواب الطبيعة الإنسانية.
مجلة مختصة بهذه الحالة GQ نشرت مقالا بعنوان “كيف أصبح الناس الأغنياء أكثر غنى أثناء وباء كورونا” في ٢٨ أبريل المنصرم، وتحت العنوان مباشرة جاء نوع من الإشهار أن “جيف بيزوس” صاحب “أمازون” وأغنى رجل في العالم (١٣٥ مليار دولار قبل الأزمة) قد أضاف إلى ثروته ٢٥ مليارا منذ بداية العام.
الكوارث عادة لا تكون رفيقة بالبشر بشكل متساوٍ أو متكافئ، فالكثيرون يخرجون منها وقد باتوا أسوأ حالا مما كانوا عليه من قبل، ولكن قليلون يخرجون من الكارثة وقد باتوا أحسن حالا. المجلة تذكر أن ذلك كان هو الواقع الذي حدث في أزمة المال والاقتصاد عام ٢٠٠٨، فالعدد الكبير جدا من العاملين الذين خرجوا من العمال إلى البطالة والسكان الذين خرجوا من بيوت آمنة إلى الشارع بعد عجزهم عن سداد الأقساط، كانوا بالتأكيد من الخاسرين.
الأزمة الحالية أغلقت الكثير من الأعمال التي لا يمكن القطع أنها سوف تعود مرة أخرى إلى العمل، وفي الولايات المتحدة فإن ٣٠ مليونا طلبوا إعانات البطالة، وهو رقم ونسبة من العاملين تماثل تلك التي جرت خلال كساد ثلاثينيات القرن الماضي.
“لوك داربي” كاتب المقال المشار إليه يشير إلى أن مليارديرات أمريكا كانوا بالفعل حققوا نجاحات كبرى كان نتيجتها الكثير من المال، وفي ١٩٩٠ فإن جامع ثروة مليارديرات أمريكا كان ٢٤٠ مليار دولار. في ١٥ أبريل المنصرم، أي بعد ثلاثة عقود، أصبح هذا الرقم ٣.٢ تريليون أي أكثر بكثير جدا من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة البالغ ٣٠٠ مليار دولار خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام.
وفي الحقيقة فإن السياسات المالية للدولة الأمريكية خلال هذه العقود كانت تميل إلى التقليل من الضرائب والالتزامات المالية الخاصة بالأغنياء التي كان من كبارها الإدارة الحالية للرئيس دونالد ترامب.
ولم يختلف الأمر كثيرا بعد نشوب أزمة كورونا، حيث استخدمت الإدارة الفرصة لكي تعطي الأغنياء “السوبر” المزيد من الإعفاء خاصة للشركات التي تحقق أرباحا تزيد على ٢٥ مليون دولار، وعلى الأسر التي تحقق دخلا سنويا يزيد على ٥٠٠ ألف دولار، ووفقا للجنة المشتركة في الكونجرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري فإن ٨٠٪ من مقررات التخفيف من آثار الجائحة وصلت إلى من كان دخلهم أكثر من مليون دولار سنويا، أو ٤٣ ألف أمريكي من بين ٣٣٠ مليون يشكلون السكان.
وحتى ذلك القدر الذي ذهب للتخفيف من آثار البطالة في المشروعات التي يوجد بها أقل من ٥٠٠ عامل، فإنه ذهب إلى سلاسل المطاعم الكبرى التي قدم أصحابها هبات لحملة ترامب الانتخابية.
ولكن لماذا يحدث ذلك فيعطي الأغنياء ما كان واجبا توزيعه على الفقراء؟ وهل في الأمر نوع من الانحياز الطبقي؟ أو أن النظام الاقتصادي الرأسمالي والسياسي الديمقراطي منحاز بطبعه إلى الأكثر غنى ومن ثم الأكثر قدرة وقوة ونفوذا.
وفي الحقيقة فإن قضية المساواة من القضايا المحورية التي كثيرا ما ترفع بالذات وقت الأزمات، والفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي يجعلها مصدرا من مصادر صراع الطبقات. المدرسة الماركسية في التفكير دارت حول هذه الفكرة التي تولدت منها دولا اشتراكية خاضت تجربتها السياسية وانتهت بعد ذلك إلى الانهيار الكامل.
الدول الاشتراكية التي لم تنهار، وبقيت أحزابها الشيوعية حاكمة كما هو الحال في الصين وفيتنام، أقامت خلطة من حزب مسيطر مع الرأسمالية المطلقة التي لا تعرف لا معارضة ولا نقابات ولا حرية صحافة، أي دون القيود الخاصة التي تكونت عبر المراحل المختلفة للمجتمعات الرأسمالية، ولكن الفكرة الرئيسية التي بقيت بغض النظر عن النظام السياسي هي أن للأغنياء ضرورة ما في حركة المجتمعات خلاصتها أن لديهم القدرة على دفع هذه المجتمعات إلى الأمام من حيث الغنى والثروة والقدرة والقوة.
أكبر المليارديرات في عصرنا هم “جيف بيزوس” الذي خلق أهم نظام للنقل والتوزيع في التاريخ من خلال شركة “أمازون”، وبيل جيتس (١٠٥ مليارات دولار) صاحب “مايكروسوفت” التي ربما تكون وراء أهم ثورة تكنولوجية عرفها التاريخ المعاصر. “وارين بافيت”،”بلومبيرج” وغيرهما مليارديرات غيروا تاريخ البشرية؛ الأول من خلال سلسلة متكاملة لبيع المنتجات، والثاني من خلال الاقتصاد إلى قلب الإعلام التلفزيوني.
عمليا فإنه لا يمكنك لإنسان أن يمتلك مليارا من الدولارات إلا إذا حقق أمرا لا يحققه ٧ مليارات من البشر الآخرين الذين يسكنون الكرة الأرضية. الملياردير ليس في هذه الحالة رجلا في حافظته أو في جيبه مليار دولار، وهذا الرقم لا يعود إلى ما لديه من أصول يستعمله، منزله، وطائرته، ويخته، فكل ذلك في أحسن الأحوال والأماكن والقارات لا يزيد في القيمة عن ١٠٠ مليون دولار.
وهؤلاء من ناحية أخرى هم أصحاب القدر الأكبر من الضرائب المدفوعة في أي دولة، والمرجح أن الفقراء ومتوسطي الدخل هم أكثر المتهربين من الضرائب. الملياردير لا يستطيع تصفية الأصول بسهولة لحل أزمة مالية لأن مهمته في الحياة أن يخلق الأصول، ويدفع الإنتاج، ويعطي الوظائف ويبقيها، وإذا بات ذلك مستحيلا في أزمات الحروب وكورونا فإنه يسأل الدولة التي يعطيها ضرائبه أن تقوم بمهمتها في حماية المجتمع من هجمات دول أو فيروس حتى لا تكون هناك تصفية لأصول قيمتها أكثر بكثير من مليار دولار، ولكنها سوف تهبط قيمتها في الأزمة حتى يمنع قيامها وتشغيلها مرة أخرى. الملياردير لديه الكثير من الحكمة الاقتصادية وإلا لما أصبح مليارديرا من الأصل.
الأوبزرفر العربي