لا شرعية ولا سلطة دون انتخابات
ماجد كيالي
تمخّض اجتماع قيادات الفصائل الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير (رام الله، 2021/4/29) عن اتخاذ قرار بتأجيل الانتخابات التشريعية، إلى أجل غير مسمّى، وهو خيار دفع إليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلمته الافتتاحية التي ركّز فيها على أن “لا انتخابات فلسطينية دون القدس”، أو طالما أن إسرائيل لا تسمح بها في القدس. وفي الواقع فإن ذلك الكلام هو بمثابة “كلام حق يراد به باطل”، بحسب القول المأثور، لأسباب عدّة، أهمها:
أولاً، أن الرئيس الفلسطيني، وكل أركان قيادته، يتحملون المسؤولية عن ذلك، كونهم يعرفون تماما أن إسرائيل ستعارض إجراء الانتخابات في القدس، لكنهم لم يعملوا شيئا لتهيئة أوضاعهم، وتهيئة شعبهم لمواجهة هذا التحدي.
ثانيا، أيضا، تتحمل القيادة الفلسطينية مسؤولية ما يحصل لأنها هي بالذات التي وقعت اتفاق أوسلو (1993)، وهي التي رضيت فيه بوضع القدس الشرقية موضع مساومة مع إسرائيل، في ما يسمّى مفاوضات المرحلة النهائية، إلى جانب قضايا مصيرية أخرى (اللاجئين والمستوطنات والحدود) بثمن موافقة إسرائيل على إقامة كيان السلطة وقتها.
ثالثا، فوق ما تقدم فإن تلك القيادة بالذات تتحمل مسؤولية رضوخها للإملاءات الإسرائيلية بخصوص ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، والتي من ضمنها انتخاب فلسطينيي القدس في صناديق بريد إسرائيلية.
رابعا، إن ذلك القرار يعني الرضوخ لاتفاق أوسلو وللترتيبات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة عليه، على الرغم من أن قرارات المجلس المركزي منذ العام 2015، وقرارات المجلس الوطني (د 23، 2018) أصدرت قرارات تفيد بوقف التنسيق الأمني وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل بسبب تملّصها من الاستحقاقات المطلوبة منها في الاتفاق.
خامسا، الخطير في الأمر أن منطوق كلام الرئيس في الاجتماع المذكور يكرر سياسة يرهن فيها عملية الانتخابات كلها إلى موافقة إسرائيل، في تأكيد أنها هي صاحبة الكلمة العليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن السلطة هي مجرد سلطة إزاء شعبها، ومجرد ديكور إزاء الخارج، ولزوم ما لا يلزم إزاء إسرائيل، وإلا فما هو المعنى الآخر لانتظار السماح الإسرائيلي بإجراء انتخابات في القدس؟
الفكرة هنا أن القيادة الفلسطينية كان يفترض بها أن تحاول استثمار “هبّة القدس” المجيدة، حيث استطاع الشعب الفلسطيني فيها فرض إرادته على الاحتلال، وذلك بتحويل ساحات باب العمود والمسجد الأقصى إلى أماكن للاقتراع، باعتبار أن تلك المعركة جزء من الصراع على المكان والزمان والسيادة في تلك المدينة. لكن القيادة الفلسطينية لم تذهب نحو هذا الخيار لسببين، أولهما، أنها تتصرف من واقع كونها سلطة تحت الاحتلال، وكسلطة إزاء شعبها، على حساب كونها حركة تحرر وطني. وثانيهما، أن الغرض المتوخى من العملية الانتخابية، بالنسبة إليها، هو مجرد تجديد شرعية النظام السياسي القائم، أو الطبقة السياسية المهيمنة، لذا فقد تم إصدار دفعة قوانين استهدفت هندسة تلك العملية بحيث تأتي بنتائج مرضية، لكن عندما تبين أن تلك اللعبة لم تعد ناجحة، مع انقسامات “فتح”، احتاج الأمر إلى ذريعة، وكانت القدس بمكانتها الوطنية والتاريخية هي تلك الذريعة، للأسف.
على أيّ حال فإن الحديث عن الذريعة يفترض منا التذكير بحقيقة أن القيادة الفلسطينية، طوال تاريخها، لم يعرف عنها ميل للمشاركة السياسية ولا للانتخابات، بحيث يكون للشعب رأيه، في تقرير السياسات وتحديد الخيارات الوطنية. وللأسف فإن الحركة الوطنية الفلسطينية تفتقد إلى الثقافة الديمقراطية والعلاقات الديمقراطية والإطارات التشريعية الديمقراطية (دعك من ديمقراطية حق الكلام فقط). ثم إن الحركة الوطنية الفلسطينية، بخياراتها وإطاراتها، تسيّر بطريقة فردية من قبل الزعيم، أو القائد، أي ليس من قبل فصيل معين، مع سيادة البني البطريركية، والعلاقات الزبائنية في الفصائل الفلسطينية. يمكن التدليل على ذلك بعدة أمثلة، منها:
أولا، إن المجلس المركزي الفلسطيني قرر في دوراته المنعقدة منذ العام 2010 (بعد انتهاء أجل المجلس التشريعي الثاني) ضرورة تنظيم انتخابات تشريعية، وهو ما أكده المجلس الوطني الفلسطيني (2018) إلا أن القيادة الفلسطينية كانت تؤجل ذلك بحجة أو بأخرى، منها حجة الانقسام، إلا أنها فجأة وبعد 11 عاما على انتهاء الأجل المحدد للانتخابات قررت بمراسيم معينة عملية انتخابية. أيضا هذا ينطبق على المجلس الوطني الفلسطيني الذي لم يعقد سوى جلسة واحدة له خلال 22 عاما (منذ عام 1996 إلى 2018).
ثانيا، إن القيادة الفلسطينية، حينما كانت بمثابة دولة داخل دولة في لبنان، لم تقم ولا مرة بتنظيم عملية انتخابات لاختيار ممثلي فلسطينيي لبنان في المجلس الوطني الفلسطيني، وهذا ينطبق على سوريا.
ثالثا، إن المنظمات الشعبية الفلسطينية (اتحادات الطلبة والمرأة والعمال والكتاب مثلا)، والتي كانت حاضنة لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، والتي كانت تعقد مؤتمرات دورية منتظمة لها، قبل إقامة السلطة، كفّت عن ذلك منذ زمن بعيد، وحتى أن آخر مؤتمر للاتحاد العام لطلبة فلسطين كان في العام 1990.
رابعا، للتذكير فقد تم عقد اتفاق أوسلو من خلف الإطارات الوطنية التشريعية، وحتى من خلف قيادة فتح، ومن خلف الشعب الفلسطيني، وفيما بعد تم فرضه في كل تلك الأطر، رغم كل الإجحافات والنواقص والمشكلات الكامنة فيه، والتي يعاني الشعب الفلسطيني من جرائها حتى الآن. ولعل كلام عزام الأحمد، عضو اللجنتين المركزية لفتح والتنفيذية للمنظمة، التي اعتبر فيها أن حركات التحرر الوطني لا تجري انتخابات، دليل واضح على ذلك، وهو كلام مخالف للواقع إذ معظم الدول التي كانت خاضعة للاستعمار عرفت التجارب البرلمانية من الهند إلى مصر وسوريا والعراق.
باختصار فإن تلك القيادة ليس فقط لا تحترم شعبها، بعد أن حوّلت الرواية التاريخية الفلسطينية المبنية على النكبة وإقامة إسرائيل وقضية اللاجئين (1948) إلى الرواية المبنية على احتلال الضفة والقطاع (1967)، علما أنها انطلقت قبل ذلك الاحتلال، ناهيك عن تحويلها الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال. كما أن تلك القيادة لا تحترم حتى تنظيمها، بتغيير أهدافه ومنطلقاته، أو جعلها مجرد ديكور، لا علاقة لها بالسياسات.
لا شرعية ولا سلطة دون انتخابات.. لا في المنظمة ولا في السلطة..