لماذا استعان غوتَيرَش بالمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة؟
قلما يلجأ الأمناء العامون للأمم المتحدة إلى الاستعانة بالمادة 99 من ميثاق الشرعية الدولية، التي تعطيهم حق دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد، لمناقشة قضية تتعلق بالأمن والسلم الدوليين. ولم تستخدم هذه المادة المهمة سوى ستَ مراتٍ فقط، منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945.
وتنص المادة 99 على أن “من حق الأمين العام للأمم المتحدة أن يلفت انتباه مجلس الأمن الدولي لأي قضية يعتقد بأنها يمكن أن تهدد الأمن والسلم العالميين”.
لكن الأمناء العامين، الذين يأتون عبر التوافق الدولي، ويُراعى في اختيارهم التنوعُ القارّي، لا يرغبون أن يبدوا وكأنهم يتحكمون بالقضايا الدولية، التي يجب أن تهتم بها الدول أنفسها، خصوصا الدول العظمى التي تقع على عاتقها مسؤولية الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، باعتبارها الأقوى والأقدر والأكثر تضررا من زعزعة الأمن والاستقرار في العالم.
استُخدمت هذه المادة آخر مرة، حينما دعا الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، خافير بيريز دي كوييار، مجلس الأمن إلى الانعقاد لمناقشة الوضع المتأزم في لبنان عام 1989. وقد حُلَّت المشكلة اللبنانية في النهاية، عربيا لا دوليا، في مؤتمر الطائف عام 1990. غير أن الأمناء العامين، طوال تأريخ الأمم المتحدة، كانوا قد حثّوا مجلس الأمن على الانعقاد ولفتوا انتباه أعضائه إلى القضايا الخطيرة التي اعتقدوا بأنها تهدد الأمن والسلم العالميين، ولكن دون الاستعانة بالمادة 99.
على سبيل المثال، لفت الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، داغ همرشلوت، انتباه المجلس إلى خطورة قضية الكونغو عام 1960، والتي قُتل همرشولت في حادث سقوط طائرته عام 1961، أثناء وجوده في الكونغو، في مَهَمَّة دولية لتحقيق السلام. كما لفت الأمين العام الأسبق، كورت فالدهايم، انتباه مجلس الأمن إلى خطورة أزمة الرهائن الأميركيين، الذين احتجزهم “الطلبة السائرون على خط الإمام” في إيران عام 1979، كما فعل الشيء نفسه بعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980.
وقد نبّه الأمين العام الحالي، أنطونيو غوتيرش، مجلس الأمن، عندما تعرض الروهينغا المسلمون في بورما إلى الاضطهاد عام 2017، إذ ارتكُبت حينها انتهاكاتٌ خطيرة لحقوق الإنسان، اضطر نصف مليون من شعب الروهينغا إلى النزوح من منازلهم في ولاية راخين، واللجوء هاربين سيرا على الأقدام في الغابات إلى بنغلاديش.
لكن غوتَيرش اختار هذه المرة الاستناد إلى المادة 99 في رسالته الموجهة إلى رئيس مجلس الأمن، مندوب الإكوادور، هوزيه خافير دومانينغيز، لحث المجلس على الانعقاد بشكل عاجل، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، لدرء حصول تداعيات خطيرة للوضع الإنساني المتفاقم هناك.
وسبب لجوئه إلى هذه المادة، التي تلزِم أعضاء المجلس بالاستجابة لدعوته بالانعقاد، هو أن نداءاته السابقة لم تسفر عن أي حل لسكان غزة المحاصرين، الذين يعيشون تحت ظروف إنسانية صعبة جدا، ويتعرضون للقصف العشوائي اليومي من الجيش الإسرائيلي، والذي أودى بحياة 17 ألفا منهم حتى الآن، معظمهم من النساء والأطفال. وعندما رأى تردد الدول الكبرى في اتخاذ موقف يرتقي إلى خطورة المأساة، أراد أن يدفعها للاضطلاع بمسؤولياتها، ويبرِّئ ذمته من المأساة الإنسانية المتواصلة منذ شهرين، أو على الأقل، يريح ضميره بأنه فعل ما يمكنه أن يفعل لإنقاذ الأبرياء.
والسيد غوتيرش خبير دولي كان قد تعامل مع أزمات إنسانية كثيرة، حتى قبل توليه منصبه الحالي مطلع عام 2017، إذ كان يشغل منصب المفوض الدولي السامي لشؤون اللاجئين منذ عام 2005، والذي شغله لعشر سنوات. وقد حقق غوتَيرَش إنجازاتٍ عديدةً في منصبه كمندوب سامٍ، خلفا للأمير صدر الدين أغا خان، وقد عمل على إصلاح هذه المنظمة العملاقة، التي يعمل لديها أكثر من 10 آلاف موظف في 126 دولة، وتقدم المساعدات لستين مليون إنسان في مختلف قارات العالم.
ويشهد له أنه اهتم كثيرا باللاجئين العراقيين عام 2007، واصفا الأزمة بأنها الأسوأ في الشرق الأوسط منذ عام 1948. كما اهتم كثيرا باللاجئين السوريين وحصل على تمويل دولي لمساعدتهم.
كما سعى بكل الطرق إلى لفت انتباه العالم إلى مأساة اللاجئين، بينها تعيين الممثلة المعروفة، أنجلينا جولي، مندوبة عنه لشؤون اللاجئين، وكانت مؤثرة في جلب الانتباه إلى مأساة اللاجئين في مختلف أنحاء العالم. ويمكن القول إن غوتَيرَش هو أنجح أمين عام للأمم المتحدة حتى الآن، والأكثر انسجاما مع المَهَمة الإنسانية للمنظمة الدولية.
وقبل توليه منصب المندوب السامي لشؤون اللاجئين، كان غوتَيرَش زعيما للحزب الاشتراكي البرتغالي ثم رئيسا لوزراء البرتغال في الفترة 1992 حتى عام 2002، وقد اختاره استطلاع للرأي في البرتغال كأفضل رئيس وزراء خلال 30 عاما. ويسجل له أنه استقال من منصبه كزعيم للحزب الاشتراكي ورئيس للوزراء عام 2001، عندما فشل الحزب الاشتراكي في تحقيق فوز في الانتخابات المحلية، ولم يكن مضطرا للاستقالة، فالانتخابات تتعلق بالحكومات المحلية، وليس الحكومة الاتحادية، لكنه بقي في منصبه حتى عام 2002. كما شغل رئاسة المنتدى الاشتراكي العالمي في الفترة 1999 إلى 2005.
ويعتبر مجلس الأمن أقوى سلطة دولية في الكون، لكن ما يعطل عمله هو وجود حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول دائمة العضوية في المجلس، وهي الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا. وقد حصلت هذه الدول على حق الفيتو وفق المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة، رغم أن المادة لم تذكر قط في فقراتها الثلاث كلمة (فيتو)، لكنها نصت على أن تُتَّخَذ القرارات بتصويت تسعة أعضاء لصالح القرار المقترح، وأن يحصل ذلك دون معارضة أيٍّ من الدول دائمة العضوية، وهذا يعني أن أيَّ اعتراض من أيِّ دولة من الدول الخمس، سوف يُعطِّل إصدار القرار.
أول استخدام لحق النقض كان من قبل الاتحاد السوفيتي (الذي حلَّتْ روسيا محلَّه عام 1991) وكان في عام 1946، وبقيت روسيا الدولة الوحيدة التي تستخدم الفيتو في مجلس الأمن لعشر سنوات، حتى أكتوبر عام 1956 عندما استخدمته بريطانيا وفرنسا معا، بخصوص أزمة السويس. استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو أول مرة في مارس عام 1970 في قضية روديسيا، وكانت روسيا في ذلك التأريخ قد استخدمت الفيتو 80 مرة!
أكثر دولة استخدمت حق النقض، حسب سجلات الأمم المتحدة، هي الاتحاد السوفيتي وخليفته روسيا، التي استخدمته 121 مرة حتى الآن، وتأتي بعدها الولايات المتحدة، التي استخدمته 83 مرة، كان آخرها يوم 8 ديسمبر 2023، بخصوص وقف إطلاق النار في غزة، ومعظم استخدامات الولايات المتحدة للفيتو كانت بخصوص الدفاع عن إسرائيل، وفق بيانات الأمم المتحدة. أما بريطانيا وفرنسا فلم تستخدما حق الفيتو منذ عام 1989، وكانتا قد استخدمتاه حتى ذلك الحين 28 مرة لبريطانيا، و16 عشر مرة لفرنسا. وهذا مؤشر على أفول دور هاتين الدولتين العالمي، أما روسيا فصارت تستخدمه للبرهنة على استمرار أهميتها الدولية!
وبالإضافة إلى الدول الخمس، التي تتحكم بقرارات مجلس الأمن، وبالتالي بقضايا العالم أجمع، هناك عشر دول ذات عضوية دورية تمتد لسنتين، وهذه الدول تختارها الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي الدورة الحالية، يشغل عضوية مجلس الأمن كلٌ من دولة الأمارات العربية المتحدة والأكوادور والغابون وغانا والبرازيل وألبانيا واليابان ومالطا وموزمبيق وسويسرا.
أعضاء مجلس الأمن متساوون في صلاحياتهم، لكن الفرق هو أن الدول دائمة العضوية تمتلك حق النقض، (الفيتو)، الذي يمنحها قوة استثنائية، ويمكن أن يشل قدرة المجلس على اتخاذ القرار، إن استخدمته أيٌّ منها، وحينئذ يمكن تلك الدولة تعطيل أي مشروع قرار، حتى لو اتفق حوله الأعضاء الأربعة عشر الآخرون. وهذا ما حصل في مشروع القرار الأخير، الذي تبنته دولة الأمارات العربية المتحدة، بدعم من 97 دولة أخرى، إذ صوت 13 عضوا لصالح القرار، وامتنعت بريطانيا عن التصويت، بينما أبطلته الولايات المتحدة باستخدام الفيتو.
وعند استخدام الفيتو، تنتقل المناقشة في العادة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تضم كل دول العالم المعترف بها، والجمعية يمكنها اتخاذ قرار بالغالبية، لكنه لا يمتلك قوة القرارات التي يصدرها مجلس الأمن، خصوصا إذا صدرت وفق الفصل السابع، الذي يجيز استخدام القوة العسكرية لتنفيذه، كما حصل في القرار 678 لإخراج العراق من الكويت عام 1990 والذي صدر بتصويت 12 عضوا، ومعارضة كوبا واليمن، وامتناع الصين عن التصويت.
المادة 49 من ميثاق الأمم المتحدة، تلزم أعضاء المنظمة الدولية جميعا، بتقديم المساعدة في تنفيذ الإجراءات التي يقررها مجلس الأمن، ولكن المعتاد، أن هذا الإلزام ليس حديا، فالدول غير القادرة على تقديم المساعدة، تقدم تبريراتها، والمعتاد أن الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة، تتولى عملية التنسيق لتنفيذ القرار، ولأنها دولة قوية وثرية ومؤثرة، فإن معظم الدول تتعاون معها، خصوصا إذا ما تحملت المنظمة الدولية نفقات التنفيذ.
استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو في الثامن من ديسمبر 2023، كان في غاية الغرابة، ليس من جهة مساندتها المعروفة لإسرائيل، ولكن لطبيعة القرار الإنسانية السلمية، إذ دعا إلى وقف إطلاق النار فحسب، وقد جرت العادة أن تطالب الدول جميعا الأطرافَ المتحاربة، بضبط النفس ووقف إطلاق النار!
ويمكن القول إن مأساة غزة قد كشفت بجلاء حجم التناقض وازدواجية المعايير لدى الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة تحديدا، التي تدعي بأنها تسعى لتفعيل القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في العالم! ومن الواضح أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي الإنساني وقد اعترف العالم أجمع بذلك، بما فيه الولايات المتحدة، التي اعترف وزير خارجيتها، أنتوني بلنكِن، بـ”وجود فجوة، بين تعهدات إسرائيل بحماية المدنيين، ومجرى الحرب على أرض الواقع”.
لا شك أن مأساة غزة ستغير مجرى السياسة الدولية مستقبلا، فشعوب العالم، ترى ما يحصل من مآسٍ وعقوبة جماعية في هذه البقعة الصغيرة، وترى صمت الدول المؤثرة في القرار الدولي، أو مساندة بعضها لاستمرار هذه المأساة الإنسانية المريعة.