لماذا تهتم النقابات التونسية بزيادة الرواتب ولا تلتفت إلى الإنتاجية
تحرّكت النقابات من مختلف القطاعات ملوحة بالتصعيد ساردة الكثير من مطالبها، وبعضها يتعلق بزيادة الرواتب، والبعض الآخر بتحسين ظروف العمل وتوظيف عناصر جديدة لتخفف العبء عن قطاعات مضغوطة خاصة التعليم الثانوي والابتدائي.
ويمكن اعتبار بداية الموسم السياسي والتعليمي مناسبة سنوية للمطالب بالزيادات، وهذا مطلب مشروع، لكن هل أن مهمة النقابات تنحصر فقط في المطالبة بالزيادات؟ يفترض أن النقابات، وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل شريك اجتماعي. ومثلما أنه يطالب الحكومة بإشراكه قبل اتخاذ أيّ قرارات، فإن من الواجب الذي تفرضه الشراكة أن يفكر الاتحاد مع الحكومة في التطوير والتحسين، تفكير جماعي في المساحة التي تسمح بها مهمته، وفي مربع الشغل، وليس في مربع السياسة مثل مبادرات الحوار أو خارطة الطريق التي أوحت للسلطة بأنها عاجزة، وأن عليها أن تنصت للمنظمة وتأخذ منها أفكارا وبرامج جاهزة لتطبيقها.
السلطة تريد من الاتحاد أن يكون شريكا اجتماعيا وليس سياسيا، ومن المهم أن يستفيد من هذا المربع لطمأنة الحكومة ورئيس الدولة قيس سعيد بدل حالة القطيعة الحالية.
لا يقف دور الاتحاد عند المطالبة باستمرار، فهذه حالة استفحلت بعد 2011 وضمن ظروف معينة. قبل 2011، كان الاتحاد شريكا قريبا من السلطة، وكان راضيا بمربع تحركه ليس لحالة ضعف ولا لمناورة أو خيارا بالسير في ركاب السلطة. السبب أن الاتحاد كان مقتنعا بأن مربع التحرك يقوم على الحوار مع السلطة حول التفاصيل الاجتماعية، وتفهّم الظروف التي تمر بها، وهذا دوره الأساسي، أي الحوار الذي يفضي إلى مرونة من الجانبين.
ومثلما أن الحكومة تقبل بالزيادة رغم ظروفها المالية الصعبة والتزاماتها الاجتماعية، فإن الاتحاد كان سقف مطالبه محدودا، وكان يضغط على بعض القطاعات للجم تحركاتها والحد من شطط مطالبها، ولذلك كان يطلق عليها بالبيروقراطية النقابية لأنها لا تستجيب سريعا لمطالب القطاعات ذات الثقل وخاصة التعليم، كما أنها تستجيب بشكل جزئي ولا تعطي الحق مطلقا للقيادات الوسطى والقطاعات المندفعة.
لكن السؤال الأهم: لماذا يسعى الاتحاد لأن يكون شريكا في جانب واحد، أي التفاوض من أجل الزيادات، وليس من أجل تطوير العمل وتحسين الإنتاجية والارتقاء بأداء العمال وانخراط النقابيين من مستوياتهم المختلفة؛ القاعدية والوسطى والمركزية في هذا المسار؟
هل إن العمل لا يهم النقابيين أو أن العمل النقابي يتعارض مع تحسين قيمة العمل، وأنهم ينظرون إليه كحالة اغتراب يجب التخلص منها، ومن أين ستأتي الأموال التي تنفق على تطوير العمل وخلاص أجور العمال والموظفين بمن فيهم النقابيون.
تكاد تخلو مؤتمرات الاتحاد وندواته والدراسات التي يعدها سنويا من الإشارة إلى الإنتاجية وتحسينها لدى العامل أو الموظف التونسي التي بدورها تحسّن مداخيل المؤسسات، سواء العامة أو الخاصة، وتسمح له بتحسين ظروف العمل والعامل في حين أن الضغط المستمر عليها لتأمين الزيادة دون مداخيل سيدفعها إما للاستدانة أو تقليص عدد العمال وتحجيم نشاطها بإغلاق فروع لها، أو الغلق الكامل كما حصل لمؤسسات متوسطة وصغرى في السنوات الماضية.
الشراكة تعني الوقوف معا لإنجاح المؤسسة وتحمّل مسؤولية الإنقاذ في حال تراجع النتائج، ولو أدى الأمر إلى إقرار هدنة بسنوات توقف خلالها الزيادات في الرواتب والمنح وتقليص الخدمات، وهو ما لا يحصل في تونس بسبب اكتفاء النقابات بجانب واحد لدورها، وهو المطلبية وليس الإنتاجية.
اتحاد الشغل يبدو منعزلا عن تعريفات العمل النقابي المعاصر الذي صارت فيه المنظمات النقابية تقدم رأيها وأفكارها لتحسين إنتاجية المؤسسات وضمان بقائها وتطوير قدراتها. وأحد أسباب التوتر بين الدولة واتحاد الشغل هو مسألة تفرغ النقابيين للاجتماعات بدل من أن يقدموا المثال على أنهم في صدارة العمال من حيث الكفاءة والقدرة على الإنتاج، وهي مسألة رمزية تعطي صورة عن كيفية تفكير النقابات.
ويعني التفرغ النقابي أن يترك النقابي عمله الحكومي ويتفرغ لدوره النقابي، وأن تستمر الدولة في تمكينه من راتبه وتضيف إليه الزيادات والعلاوات التي يحصل عليها زملاؤه في المهنة التي ينتمي إليها.
فكيف يمكن أن يكسر اتحاد الشغل القطيعة بين هياكله ومنتسبيه وبين الإنتاج والإنتاجية، والتعامل مع العمل على أنه أمر شاق، ولو كان بساعات أقل وفي مهن لا تحتاج إلى جهد كثير، خاصة المهن المرتبطة بالمكاتب. سيحتاج الأمر إلى ثورة داخل الثقافة النقابية من جهة والثقافة الشعبية التي تعادي العمل وتريد جنبي المكاسب.
حالة العداء للعمل وصاحب العمل ثقافة متأسسة لدى النقابيين، وهي لا تعود إلى المقاربة الماركسية وما تحيل إليه من محاميل سلبية تجاه أصحاب العمل وعدم الاهتمام بنجاح المؤسسات ما لم تكن بصيغة تشاركية (تعاضديات أو مؤسسات أهلية)، ولكن أيضا لمقاربة تونسية خاصة مرتبطة بالقطاع العام وعلاقة التنافر بين الدولة والنقابات، وحشر مفهوم الدولة في صورة نمطية تقوم على الإنفاق.
ومنذ الاستقلال في 1956، بنى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة دولة تقوم على فكرة الأبوة، فهي من توفر التعليم المجاني، وتنفق على التلاميذ والطلبة، منحا ومساعدات مختلفة، لينجحوا ويتخرجوا في الجامعة، ثم توظفهم في مؤسسات الدولة وتعطيهم رواتب تجعلهم يعيشون في مستوى اجتماعي مريح، وتتدخل لتدعم الأسعار لتكون ملائمة لجميع الفئات.
من تلك اللحظة بات التونسيون يعتبرون أن من واجب الدولة أن تفكر فيهم، وتفكر مكانهم، وتعمل على توفير الظروف المريحة لهم أيا كانت ظروفها وإمكانياتها، أكانت تمتلك المال أم في وضع صعب، خاصة أنها ليست دولة منتجة للنفط والغاز مثل جيرانها.
لقد خلق بورقيبة نموذجا لدولة تجعلها دائما تحت الضغط، ومهما عملت وأنفقت، فهي مقصّرة بالضرورة، وتجد في وجهها وباستمرار نقابات ومجموعات سياسية تتّهمها بالعجز، والتآمر على الموظفين والعمال وسرقة الأموال وتهريبها إلى الخارج.
وهذا الشعب لا تنتهي مطالبه، ولا يهتم لقدرات الدولة، فهو حين يمرض يريدها أن تداويه، وإن داوته فهي مقصّرة وإن لم تداوه فهي متآمرة. وفي قمة أزمتها الاقتصادية، كانت تبحث له عن مسارب لتشغّله في الداخل والخارج، وإذا أبطأت فإنه يتظاهر ضدها. ليس مهمّا إن كانت التهم حقيقية أم مفتعلة، المهم أن الدولة مطالبة بأن تستجيب لما يريده الشعب الذي علمته وثقّفته وشغّلته وعوّدته على أن ينتظر منها الحلول دائما.