لندن في ورطة غسيل الأموال القذرة
هاني مسهور
لم يكن التحقيق الاستقصائي الذي كشفت عنه صحيفة (فاينانشال تايمز) البريطانية لدراسة تثبت أنه ليس هناك مجال للشك في أن لندن هي عاصمة المال غير النظيف للعالم، فما جاء في التقرير أنه ولعدة عقود أصبحت لندن الآن سجادة حمراء للأفراد الذين يعتمدون على أعمال غير شرعية من جميع أنحاء العالم، والحقيقة ليس التقرير صادم بل هو امتداد لواقع معروف لكل صحفي متابع للشؤون الدولية على مدار العقود الماضية.
إبان فترة رئاسة السيدة تيريزا ماي تفجرت ذات القضية في العام 2018 وعندها تعهدت الحكومة البريطانية مواجهة مشكلة تدفق الأموال غير المشروعة التي كانت مثارة في مجلس العموم كقضية مرفوعة من النواب.
التعهد الحكومي آنذاك كشف أن المشكلة قديمة وتتعلق بحقبة الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين الماضي عندما حاولت رئيسة الوزراء الحديدية كما توصف مارغريت تاتشر تمكين لندن كعاصمة الاقتصاد العالمية فيما كانت تدور رحى الحرب الباردة.
تتعلق الأزمة الحالية بقوانين مشرعة من مجلس العموم غير أنها لا تنفذ بالشكل الكامل مما اتاح للتدفقات المالية الغير مشروعة بالمرور عبر المصارف البريطانية وتوظيفها في الأنشطة المشبوهة، هذه قد يكون مبرر مقبول يوزع على الناخبين البريطانيين لتبرير هذا الوجه العبوس للعاصمة البريطانية، ومع ذلك فأن الأكثر حساسية يتعلق فيمن هو المستفيد من التدفقات المالية الضخمة التي تمر عبر المصارف البريطانية والسؤال الأكثر إحراجاً لماذا الآن فتح هذا الملف مجدداً؟
لا يمكن فصل أزمة أوكرانيا عن هذه القضية فموقف رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون المتصاعد ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وضع البلدين بريطانيا وروسيا في مواجهة مكشوفة وفيما تراجعت كثير من دول الناتو عن هذه المواجهة المباشرة واصلت بريطانيا موقفها المتحدي لموسكو، وملف الأموال القذرة يتعلق بشكل مباشر برجال الأعمال الروس وبأنشطتهم حول العالم وما يشاع عنها في تجارتهم المتعددة الممنوعة والمحرمة كما توصف في الصحافة الدولية.
هل هي مكايدة بين حزب العمال والمحافظين ضمن السجالات التي لا تتوقف بينهما وقد يكون هذا مرجحاً غير أنه لا يلغي الواقعة أن أموالاً قذرة تمر عبر مصارف العاصمة لندن شوهت من سمعتها كواحدة من أهم عواصم العالم في ضبط القوانين والأنظمة، وهذا تحديداً ما اتهم به الرئيس بوتن بريطانيا أنها تسعى لتخريب النظام الدولي القائم على قواعد وأنظمة محددة، هذا السياق من العداء البريطاني الروسي هو جزء من الحرب حتى وأن حاولت الاحزاب البريطانية توظيفه لمصالحها الحزبية في سباق لا يتوقف حول الاستحواذ على السلطة السياسية في بريطانيا.
البريطانيون في صدمة ولا شك ومعها سيتصاعد الضغط على جونسون الذي يعاني أصلاً ارتدادات أزمات متعددة فهو وريث البريكست وهو الذي مازال تحت ضغط خرق قوانين جائحة كورونا وإقامته للحفلات المفتوحة، هذه الضغوط الهائلة يضاف لها ملف غسيل الأموال القذرة الذي سيشكل بحد ذاته قضية رأي عام كبرى ستجد فيها الصحافة البريطانية مادة غنية ستعصرها عصراً على رأس بوريس جونسون الذي قد يضطر إما لتقديم استقالة حكومته أو التراجع سياسياً أمام القيصر بوتن.
“مئات المليارات من الجنيهات الإسترلينية التي تخرج من عمليات غسل الأموال تؤثر على بريطانيا سنويا وبريطانيا أصبحت وجهة رئيسية للروس الذين يسعون لإضفاء الشرعية على إيرادات الفساد”، هذا نص ما خلصت إليه حكومة تيريزا ماي في 2018 لتبرر الأزمة غير أنها لم تغير من واقع الأزمة التي بدورها تضع كثير من المؤسسات الدولية أمام مسألة محرجة في الرقابة على الأموال البريطانية وأن كانت المؤسسات المالية فيها قادرة على إنفاذ القوانين والتشريعات التي تحمي من استشراء ظواهر الإرهاب وتجارة المخدرات وبيع البشر وغيرها من الأنشطة المحرمة.
مشروع قانون الجرائم الاقتصادية الذي تنوي حكومة جونسون تقديمه إلى البرلمان لن ينهي ما تلطخت به سمعة لندن فهذه مهمة تحتاج لوقت طويل لتسترد فيه المؤسسات المالية الثقة وتؤكد من خلال تنفيذها للقوانين القديمة قبل الجديدة أنها قادرة على منافسة مدن أكثر شفافية وأكثر دقة في تنفيذها للقوانين والتشريعات.