مؤتمر برلين.. ماذا بعد؟
الحبيب الأسود
انتهى مؤتمر برلين حول ليبيا، ولا شيء فيه يجعله مختلفا على سابقيه، سوى أنه فسّر السبب الكامن وراء إمعان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلطجته، فالعالم اليوم ليس كمثله قبل عقدين أو ثلاثة، هناك حالة عجز على فهم المتغيرات، وهناك فقدان وعي بطبيعة ما يدور على الأرض، لذلك علينا أن ننتظر مؤتمرات أخرى قادمة حول ذات الملف إن لم يسارع الشعب الليبي ويحسم القضية بنفسه.
صحيح أن بيان المؤتمر أكد التزام الدول المشاركة بسيادة واستقلال ووحدة ليبيا جغرافيا ووطنيا، لكن الإصرار على أن القضية سياسية بالدرجة الأولى يثبت أن هناك محاولة لنكران الواقع وللحقيقة التي يعرفها الليبيون، وهي أن القضية أمنية بالأساس، وأن الحل السياسي لا يمكن أن يتحقق في ظل حكم الميليشيات والجماعات الإرهابية وجحافل المرتزقة التي بات نقلها أمرا مكشوفا في رحلات جوية مباشرة من تركيا إلى طرابلس.
فهل استطاع مؤتمر برلين، مثلا، أن يعترف بأن حكومة الوفاق خاضعة للميليشيات؟ أو أن يتطرق لدور تركيا في نقل مسلحين من شمال سوريا إلى غرب ليبيا للقتال ضد الجيش الوطني بأجور معلومة، وتحت عنوان سيظهر قريبا وهو جند الخلافة العثمانية؟
وبدل أن يجدد المؤتمر الثقة في دور الأمم المتحدة وبعثتها التي تداول عليها ستة رؤساء منذ عام 2012، ألم يكن من الأجدر به أن يعترف بالفشل الذريع للأمم المتحدة منذ عام 2011 عندما أوصلت بقراراتها البلاد إلى ما هي عليه، وللبعثة التي لا تزال تحاول مسايرة الواقع دون قدرة على التأثير فيه، حيث تثبت في كل مرة أنها أبعد ما تكون عن نبض الشارع الليبي الذي لم يعد قادرا على تحمل تعنّت الميليشيات.
إن ما تحدث عنه بيان المؤتمر من أنه يدعم المساعي الحميدة وجهود الوساطة، التي تبذلها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والمبعوث الخاص غسان سلامة، يتطلب أن نعيد قراءته آلاف المرات، لنفهم ماذا حققت هذه المساعي أو هذه الوساطة طيلة الأعوام الماضية، أم أنه يقصد بعض اللقاءات بين القطط السمان وأصحاب المصالح في فنادق تونس أو تركيا؟
أما عن موضوع وقف إطلاق النار، فيبدو أنه مجرد غطاء لحرب تدور في الخفاء، حيث تواصل نقل المرتزقة من سوريا وتهريب السلاح ووصول العسكريين الأتراك إلى ليبيا، وتركيب منظومات الدفاع الجوي وشبكات الرصد خاصة في طرابلس التي تحوّلت شوارعها إلى ساحات لاستعراض المقاتلين الأجانب، فهل أشار بيان المؤتمر لذلك أم أنه خاف على مشاعر أردوغان؟
وما دام المؤتمر دعا إلى اتخاذ إجراءات لبناء الثقة مثل تبادل الأسرى ورفات القتلى، فلماذا لم يطالب ميليشيات مصراتة بتسليم رفات ضحايا عام 2011 المدفونة في “فندق جنّات”؟ ولماذا لم يدْعُها إلى تسليم رفات معمر القذافي ونجله المعتصم ووزير دفاعه أبوبكر جابر يونس لأهله وقبيلته، أم أن ذلك لا يستقيم في ظل ازدواجية المعايير الأممية والدولية؟
أما الدعوة إلى عملية شاملة تبدأ بالتزامن مع ترتيبات وقف إطلاق النار، وتسريح أفراد الجماعات المسلحة، ونزع سلاحها في ليبيا، ودمج الأفراد المؤهلين في المؤسسات المدنية والأمنية والعسكرية بالدولة، فلن يكون لها أي صدى لأسباب عدة منها أن الميليشيات في جانبها العقائدي، ترى نفسها صاحبة مشروع، وتعتبر نفسها حصن ثورة فبراير، ولها مُفتون ومنظرون، أما في جانبها الإجرامي فإن تخليها عن السلاح يعني ملاحقتها أمنيا وقضائيا لدفع ثمن جرائمها في مذابح قرقور وسوق الجمعة وبني وليد وسرت وورشفانة وبنغازي وغيرها.
أما في ما يخص نأي الجماعات المسلحة بنفسها عن الإرهابيين، فلا شك أن المؤتمر غاب عنه أن هناك ميليشيات بالكامل ذات نزعة إرهابية، وأن الإرهاب في ليبيا لديه وجوه عدة. فالقاعدة كانت ولا تزال جزءا من الحكم في طرابلس، وإن تظاهرت بغير ذلك، ومفتي الوفاق الصادق الغرياني لا يختلف في فتاواه عن أيمن الظواهري، وبعض الميليشيات تعلن صراحة أن هدفها إقامة الدولة الإسلامية، وهناك ميليشيات جهوية لا تقلّ خطورة على وحدة الدولة من الجماعات الإرهابية، كما أنّ جانبا مهما من مجالس شورى المجاهدين المهزومة في أجدابيا وبنغازي ودرنة وسرت، يقاتل اليوم مع قوات السراج، وجماعة الإخوان تتزعم كل ذلك لتعوض به فقدانها لشرعية الشارع، وهي المدفوعة من حلفائها الإقليميين والدوليين إلى الاستمرار في عملية التغلغل داخل مفاصل الدولة.
أن الأزمة الليبية هي أمنية بالأساس وتحتاج إلى موقف جريء بحل الميليشيات نهائيا، سواء بإطلاق يد الجيش الوطني أو بتدخل قوات دولية لتنفيذ المهمة، فإذا تم القضاء على كل المظاهر المسلحة خارج سلطة الدولة، لن يكون الحل السياسي صعبا، بل سيتحقق في ظرف وجيز، وسيعرف الليبيون كيف يجتمعون على مصلحة وطنهم في ظل مصالحة وطنية شاملة.