ما بعد السنوار… النهايات المفتوحة للصراع
محمد أبو رمان
أظهرت حكومات عربية عديدة، وكذا مسؤولون غربيون كثرٌ، خفّةً شديدة سياسياً باستعجالهم الترحيب بعملية قتل زعيم حركة حماس يحيى السنوار، وبالاستنتاج أنّ الحركة بمقتله ستكون ضعيفةً، وأنّ ذلك يفتح الباب أمام صفقة عودة الأسرى، وهي توقّعات أو أمنيات تتجاهل بنى وحقائق أساسية في الصراع الدائر، أو حتّى التجارب التاريخية التي أثبتت فيها استراتيجية “قطف الرؤوس” الإسرائيلية سابقاً مع أكثر قادة “حماس”، أو حتّى الأميركية مع قيادات تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، فشلها الذريع في التعامل مع الحركات الإسلامية بصورها المتعدّدة والمتنوّعة، سواء كانت حركاتِ تحرّر وطنيةً أم حركاتٍ جهاديةً وراديكالية.
ثمّة عوامل أخرى متعدّدة تمثّل ديناميكيات تطوّر الوضع الراهن على مختلف المستويات، لكن هناك، في ما يتعلّق بحركة حماس ومصيرها، وبتأثير استشهاد السنوار على صعيد قوّة الحركة ونفوذها، متغيرات عدّة مهمّة. أولها، البنية التنظيمية للحركة، سواء على صعيد التماسك والصلابة الداخلية، أو السرعة في التعافي والإمساك بزمام المبادرة (كما حدث مع حزب الله بعد الضربات الأولى التي أطاحت أغلب الصف القيادي عسكرياً وسياسياً)، ولا توجد هنا مؤشّرات أو إشارات على أنّ ثمّة إمكانية لانشقاقات أو انسلاخات كبيرة من بنية الحركة، بل تمكّنت من المحافظة على التماسك بالرغم من الظروف الاستثنائية القاسية منذ عام.
يتمثّل المتغير الثاني في الحاضنة الشعبية، وهنالك فرضية عملت عليها السياسات الإسرائيلية منذ بداية الحرب، هي عزل “حماس” عن القاعدة الشعبية، وكان يمكن أن نتصوّر نجاحها لو أنّ إسرائيل قدّمت خيارات وبدائل وآفاقاً أخرى للناس، لكن على النقيض من ذلك، كان البديل الوحيد لـ”حماس”، الذي قدّمته إسرائيل، هو الطرد والموت والتعذيب والاحتلال والإبادة الجماعية، فهي خلقت مصيراً مشتركاً لـ”حماس” والغزّيين معاً.
يكمن المتغير الثالث في الشروط الموضوعية، وفي السياقات المحيطة أو بيئتي الصراع المحلّية والإقليمية، بما في ذلك موازين القوى وتحوّلاتها، فعلى صعيد الساحة الفلسطينية (غزّة)، تمكّنت “حماس” من الصمود والتحمّل، والمواظبة على المشاغلة، لكن هنالك فجوة كبيرة في موازين القوى. ومن الواضح أنّ إسرائيل تعمل اليوم على تقطيع قطاع غزّة، ونسف إمكانية الحياة، وإنهاء أيّ إمكانية لمقاومة مسلّحة في المستقبل. وبالرغم من أنّ حزب الله استعاد التوازن في وقت قياسي، لكن المعادلة اللبنانية والإقليمية تضغط عليه بصورة كبيرة، وثمّة تسريبات وإشارات إلى أنّه قد يقبل بوقف إطلاق نار، من دون ربط ذلك بوقف إطلاق نار في غزّة، كما كان يشترط.
وفي ما يتعلّق بإيران، ربطت عملياتها وردَّات فعلها بعمليات الاستهداف المباشر من إسرائيل، وتركت مساحاتٍ كبيرةً للحرب بالوكالة من خلال حلفائها والقوى المحسوبة على ما يسمَّى “حلف الممانعة”. بالطبع، ثمّة معضلة لكلّ الأطراف الموجودة، لكنّها تبدو أكبر عند الإسرائيليين، لأنّ العقيدة التي تحرّك نتيناهو ومعه اليمين الإسرائيلي تتمثّل في التفوّق المطلق والكامل، وتغيير الواقع الجيو استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا إن كان يمكن تحقيقه في غزّة، حالياً أو في المدى المنظور، بسبب حرب الإبادة والقتل اليومية، فإنّه غير مضمون النتائج في المديين المتوسّط والبعيد. وفي ما يتعلّق بحزب الله تبدو المسألة أكثر صعوبة على إسرائيل، والحال كذلك على الفصائل الأخرى في العراق واليمن، فضلاً عن إيران، ومن ثم إذا كانت عقيدة نتنياهو تقوم على أنّ النهاية الوحيدة للحرب تتمثّل في هزيمة مطلقة أو شبه كاملة لإيران، بما يشبه الاستسلام، شرطاً وحيداً لإعادة صوغ نظرية الأمن القومي الإسرائيلية الجديدة، فإنّ هذا يعني أنّنا أمام حرب بلا نهاية أو بنهايات مفتوحة، لأنّ ذلك يعني التخلّص من إيران وتغيير سلوكها أو بنية النظام، وفي الوقت نفسه القضاء على حزب الله و”حماس” والقوى الأخرى في المنطقة، وهذا سيناريو أقرب إلى الفانتازيا، إلّا إذا تخيّلنا أن نتنياهو سيلقي بقنابل نووية على الجميع (!).
حتّى في بقعة جغرافية بسيطة، مثل قطاع غزّة، دمّرها جيش الاحتلال وقلبها رأساً على عقب ومسحها من الوجود، فما تزال هناك مقاومة شرسة، وما يزال الناس الذين يُقتَلون يصرّون على البقاء في منازلهم رغم ما يحدث من أهوالٍ وكوارثَ تفوق قدرة أيّ مجتمع بشري، فكيف ستكون الحال ونحن نتحدّث عن حروب إقليمية، ذات طابع حضاري، وشبه عالمي، لأنّها تخلق موجات ارتداد كبيرة لدى ملايين العرب والمسلمين.
ضمن هذه المعايير، لن تكون عملية قتل السنوار بمثابة تغيير في اتجاهات الصراع ومساراته (Game Changer)، حتّى لو أنّه كان يمثّل الجناح المتشدّد والمتصلّب في حركة حماس، والأكثر تمسّكاً بشروط الحركة، وحتّى لو كان خليفته (أو التسلسل القيادي التالي له) سيميل أكثر إلى البحث عن أفق لقطع الطريق على أجندة نتنياهو باستكمال النكبة والنكسة بسيطرة جديدة على أراض أخرى، وفي محاولة إحداث واقع جديد وتدمير أكبر في الضفّة الغربية وفي عملية تهويد القدس، فالمشكلة لا تكمن عند الأطراف الفلسطينية ولا الإقليمية اليوم، هي تحديداً في وجود حكومة يمينية إسرائيلية لا ترى مستقبلاً لإسرائيل إلّا من خلال توسيع مساحة الدولة وتغيير الجغرافيا السياسية الفلسطينية، وتعديل موازين القوى الإقليمية، وهو سيناريو يبالغ كثيراً في إمكانات التفوّق والهيمنة الإسرائيلية، والرهان على اختراقات إلكترونية تجسّسية، حدثت ضدّ حزب الله في البدايات، لكن في الحقيقة معادلة الصراع أكثر تعقيداً بكثير من ذلك.