ماذا بقي من صدى لقضية شكري بلعيد
أخيرا قرر القضاء التونسي أن يغلق ملف قضية اغتيال السياسي المعارض شكري بلعيد بعد أحد عشر عاما من الأخذ والرد، والتمطيط الذي يهدف إلى منع كشف الحقيقة في وقتها للناس.
وجهت اتهامات إلى أطراف قضائية بأنها عرقلت الاطلاع على الوثائق وأنها تسترت على معطيات مهمة، وتدخلت هيئة الدفاع لتبحث عن الوثائق وتقدم رواية من جانب واحد عن مقاربة لم يأخذها الحكم في تفاصيله الحالية من خلال إقامة رابط بين الترتيب لاغتيال بلعيد وما تسمّيه الجهاز السري لحركة النهضة، والنهضة تنفي وجود جهاز أصلا وتقول إن الاتهامات الموجهة لها ليست سوى استثمار سياسي في دم بلعيد نفسه.
لا أحد بإمكانه الإفتاء في حيثيات القضية سوى القضاء، وهو من سيقرّر إن كان ثمة فصل ثان من القضية يسعى للكشف عمّا يسمّيه قادة حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، حزب بلعيد، بالبحث عن حلقة المخططين والممولين أم هو نهاية للقضية التي طغت على العشرية الماضية، وأن الأحكام برّأت النهضة، كما قال بيانها مباشرة بعد صدور تلك الأحكام.
نترك الجدل القانوني لأهله، بقي أن نتساءل عن قيمة إصدار الحكم بعد إحدى عشرة سنة من جريمة الاغتيال؟ ماذا سيفيد الآن في وقت نسي فيه الناس المرحلة السابقة وقضاياها وخلافاتها وغرقوا في تفاصيل حياتهم المعيشية ومتابعة أخبار ارتفاع الأسعار وتأمين قفة رمضان والحصول على السكر والزيت والحليب.
رغم الاهتمام السياسي البالغ بالحكم، والجدل الحامي بين حزب بلعيد وأنصاره من جهة، وحزب النهضة وأنصاره من جهة ثانية، فإن الحكم لم يجد صدى يذكر في الشارع، وكأنه قضية من التاريخ القديم، وليس تاريخا لم يمض عليه سوى سنوات قليلة.
إن المماطلة القضائية والتعطيلات التي جاءت من هذا الفريق أو ذاك هي التي حولت القضية إلى ما يشبه تراثا بما في ذلك فريق الدفاع عن بلعيد الذي أراد ألا يقف الحكم عند المتورطين المباشرين في التنفيذ، وأن يشمل جهات سياسية اتهمها بالمساعدة في التخطيط والتواطؤ للتخلص من بلعيد الذي كان يزعجها خطابه.
وهذا يعني تحويل الحكم القانوني إلى حكم سياسي أشمل، وهو أحد أسباب الإطالة والتمديد والتمطيط خاصة أن الهيئة بدت كما لو أنها تقوم بدور قضاء لم يحقق ما تريده أو تنتظره، وصارت بمثابة قضاء+ (يشمل محامين وسياسيين وإعلاميين ووقفة احتاج يوم الأربعاء).
كان يمكن أن يترك للقضاء أمر الملف ليحسمه بعد عامين أو ثلاثة من الجريمة على أن تكون المرافعات قوية ومتينة وتستظهر بالأدلة والبراهين ويكون لها وقع سياسي فعلي كان يمكن أن يقوّي مسار الانتقال الديمقراطي ويحاصر الفوضى. إعلان الحكم بعد أحد عشر عاما لم يحقق الاختراق الذي بحثت عنه هيئة الدفاع عن بلعيد، هذا أولا، وثانيا، فقد تقبله الناس ببرود، ولم يرتق إلى مستوى الرمزية التي تم الاشتغال عليها.
لكن لو تم الإعلان عن الحكم في 2014 أو 2015 فقد كان الأمر سيفرق كثيرا، فقد كانت القضية ستحظى بزخم كبير في الداخل، ويمكن للأحكام أن تجلب له اهتمام الخارج. كما كان يمكن لكل سردية أن تجد أنصارا وتقود إلى تحركات إعلامية وسياسية وشعبية داعمة لها.
قابلت النهضة صدور الأحكام من دون الإشارة إليها من قريب ببيان سريع تحتفي فيه ببراءتها. لكنها براءة قد لا تغير شيئا بالنسبة إلى حركة بدت بدورها جزءا من التاريخ. سجن قادة الصف الأول، والذي سبقته استقالات وانشقاقات وانصراف الكثيرين إلى حياتهم العادية بعد خروج الحركة من السلطة وانتهاء المغانم والفرص كلها عناصر أبعدت النهضة عن الأضواء كلية عدا بيانات روتينية لتسجيل الحضور وكأنها عادت إلى مرحلة السرية. البراءة قد لا تعني لها الكثير على أرض الواقع.
في 2014 مثلا أو حتى بعدها كانت البراءة ستكون نصرا سياسيا يلقي بتأثيره على الانتخابات وعلى نفوذ النهضة في البرلمان والحكومة وعلى خطاب قادتها، الذي ظل لسنوات تبريريا، يكتفي بدرء التهم والشبهات ليس فقط في قضية بلعيد والسهام التي تسلط عليها في مواضيع من مثل “الجهاز السري” و”الغرفة السوداء”، ولكن أيضا في موضوع الاختراق و”أخونة الدولة”.
بالمقابل، لو صدرت هذه الأحكام في فترة الزخم السياسي والإعلامي لعمل هيئة الدفاع عن بلعيد لقامت الدنيا ضد الأحكام، ولأمكن للهيئة أن تحشد سياسيا وشعبيا للضغط من أجل مد حبل الأحكام لتشمل خصوما سياسيين تقول إنهم خططوا لذلك.
فهل ستقدر الآن على أن تفرض على القضاء أن يفتح فصلا جديدا أو ملحقا للقضية تسمّيه “المخططون والمتآمرون من وراء الستار”، فهل سيقبل القضاء بذلك خاصة أن سيجابه بسؤال: لماذا الآن، ولماذا لم يعلن عند التصريح بالأحكام عن وجود فصل جديد، وهل سيجد الصراع في فصله الجديد مناخا سياسيا يتحمله وملعبا شعبيا يستمع له.
لكن الأهم بالنسبة إلى الإعلان عن الأحكام هو أن القضاء نجح في حلحلة أحد الملفات المهمة، وهو إشارة إلى قدرته على التعافي وإمكانية أن يفتح ملفات أخرى ما يزال التونسيون ينتظرون تفكيكها، وهي قضية الفساد التي قادت إلى توقيف شخصيات كثيرة وكبيرة في ما يعرف بقضية التآمر.
السلطات التونسية تقول إن لديها ملفات حقيقية وتمتلك أدلة وبراهين على وجود مؤامرة يتداخل فيها المحلي بالخارجي. ومحامو المتهمين في القضية يقولون إن الملفات فارغة وليس فيها أدلة، وأن التوقيف محكوم بأجندة سياسية تريد من خلالها السلطة إفراغ الساحة من خصومها الوازنين حتى يسهل عليها خوض الانتخابات الرئاسية في وضع مريح.
ومثلما ثارت الكثير من التأويلات حول قضية بلعيد، وفي الأخير اختار القضاء أن يحسمها وفق ما يمتلكه من أدلة، فيمكن للقضاء نفسه أن يسرّع من خطواته في ملف التآمر ويحدد جلسات واضحة ويحتكم إلى سقف زمني للحسم، والأفضل أن يتم الحسم القضائي وإصدار الأحكام قبل موعد الانتخابات بأشهر ليؤكد أن القضية ليست مرتبطة بأجندة السلطة، ويتم الحكم على من توجد إدانات قاطعة ضدهم ويطلق سراح البقية ويمكّنهم من الترشح للانتخابات وخوض حملاتهم الانتخابية.
لو نجح القضاء في حسم ملف التآمر كما حسم قضية بلعيد، فسيجد أنه قد استعاد عافيته عمليا وكسب مصداقيته وأكد استقلاله عن السلطة وبدد كل الانتقادات والاتهامات التي توجه إليه خاصة بعد التغييرات التي طالت هياكله بعد 25 يوليو 2021.
المفصل التاريخي الذي مثله الاغتيال الذي طال بلعيد (6 فبراير 2013) ومحمد البراهمي بعده بأشهر قليلة (25 يوليو في ذكرى الجمهورية) صار في عداد النسيان والخوف ألاّ يأخذ التونسيون منه العبر. ولعل أبرز الاستنتاجات أن الثورة والديمقراطية والحريات لا يجب أن تكون على حساب الدولة. ففي غياب الدولة الماسكة القوية رأينا كيف تحول الانتقال الديمقراطي إلى عنف ثم إلى اغتيالات لم يكن من الممكن التصدي لها ولا تتبع خيوطها قبل الجريمة وبعدها.
ما حدث أن الأحزاب والمجموعات السرية التي حكمت أو عارضت بعد 2011 هدمت الدولة في شكل انتقام من النظام الذي سبق الثورة، وسلمت البلاد إلى الفوضى التي تعاني تونس من مخلفاتها إلى الآن. وتحتاج المؤسسات التي هُدمت أو تم اختراقها والاستهانة بها إلى استعادة دورها ليس فقط لإصلاح ما هدمته الثورة التي اختطفها سياسيون بلا خبرات ولا رؤى وسعوا إلى الانتقام، ولكن لبناء المستقبل. معالجة الماضي بعقلانية ودون تشف هو طريق الإصلاح الذي تبحث عنه تونس.