ماذا يحدث في إثيوبيا؟
خالد اليماني
بإعلان “جبهة تحرير شعب تيغراي“، الأحد الـ11 من سبتمبر (أيلول)، التزامها بوقف فوري ومنسق لإطلاق النار، واستعدادها للانخراط في عملية سلام شاملة، تكون الجبهة استجابت للجهود الأممية على رغم تشكيك بعض الأوساط المرتبطة بالحكومة في إديس أبابا بشأن نيات الجبهة وقدرة الوسيط الأميركي والاتحاد الأفريقي على استعادة السلام الهش. وتأتي التصريحات في اللحظة التي يبدو فيها أن المفاوضات الجارية في جيبوتي بين الجبهة والحكومة للبحث عن مخرج للمأزق السياسي والعسكري بدأت تؤتي ثمارها.
ومنذ عامين تعيش إثيوبيا حرباً أهلية بين حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد و”جبهة تحرير شعب تيغراي”، وهي في هذه الأيام تعيش ما يمكن تسميته السلام الهش نظراً إلى عدم صدق النيات لحل المعضلة العرقية في البلاد، فبعد التصعيد العسكري الخطير الذي شهده عام 2020، وبعد جهود الإقليمية والدولية للسلام، انحسر العنف نسبياً، ولكنه عاد أخيراً في شكل ضربات جوية للجيش الحكومي ضد مواقع مدنية وعسكرية في إقليم تيغراي وعاصمته ميكيلي، رداً على ما يشاع عن استعدادات في الإقليم لحرب جديدة.
وتشير التقارير الدولية إلى أن ستة ملايين نسمة يعيشون في الإقليم المحاصر، فلا اتصالات هاتفية ولا خدمات تحويلات بنكية ولا إمدادات الوقود الضرورية لتشغيل المستشفيات والصرف الصحي. كذلك تقيد الحكومة الإثيوبية وصول الصحافة الدولية إلى الإقليم. وتقول الأمم المتحدة إن 9 من كل 10 مواطنين إثيوبيين في الإقليم يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، فيما يعتقد السكان أن الحصار ومنع الإمدادات الغذائية يشكلان موتاً بطيئاً.
وفي واقع الحال فإن فهم الصراع العرقي يشكل مدخلاً لفك رموز المشكلة الإثيوبية، فسكان إثيوبيا 113 مليون نسمة بمختلف مكوناتهم العرقية، ما زالوا يعيشون تحت هاجس هذا الصراع منذ سقوط الإمبراطور هيلا سيلاسي في عام 1974، حينما ظهرت على السطح مقاربتان لبناء الدولة، كانت الأولى هي واحدية الكيان الإثيوبي، فيما ركزت المقاربة الثانية على اللامركزية الاتحادية التي تقوم على أساس التنوع الإثني واللغوي للشعوب الإثيوبية.
حينها رفض إقليم تيغراي الوحدة الإثيوبية لاقترانها بالتاريخ التسلطي لقومية أمهرة، وهي ثاني قومية من حيث تعداد السكان بعد قومية الأورومو، وتشكل 23 مليون نسمة. وقد تشاركتا في صوغ شكل الدولة الإثيوبية لما بعد النظام الملكي متجاهلتين قومية تيغراي. واستمرت مظاهر النزعة الإقصائية الإثنية على رغم أن دستور 1995 أقر الدولة الاتحادية على أساس إثني انطلاقاً من مبدأ أن كل قومية تدير إقليمها، ولكن ضمن رؤية المصير الإثيوبي المشترك لإصلاح ما شاب العلاقات بين القوميات في الماضي من غياب العدالة، في إشارة إلى سيطرة الأمهرة على مقدرات الشعوب الإثيوبية.
ولما جاء دور قومية تيغراي لأخذ المبادرة الحاسمة في هزيمة نظام منغستو هيلا ماريام الماركسي القمعي الذي كان قائماً على أساس عرقي، قلب تيغراي للآخرين ظهر المجن، وقاموا خلال 27 عاماً بالسيطرة على كل مستويات السلطة والقوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات وقيادة الشرطة والإدارات الخدمية والريعية في الدولة، وتحول أبناء القومية المنتصرين إلى النخبة السياسية الحاكمة في أديس أبابا وسيطروا على الاقتصاد الإثيوبي.
وبعد انتخابات 2018 صفى الفائز آبي أحمد تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الذي أوصله إلى السلطة الذي أسسه التيغريني ميليس زيناوي رئيس الوزراء الأول لجمهورية إثيوبيا الديمقراطية الفيدرالية، وأسس أحمد حزبه الخاص باسم “الازدهار”، وهو تحالف ضم القوى السياسية الناشطة ضمن تحالف الجبهة الثورية باستثناء “جبهة تحرير شعب تيغراي”، وأكد اهتمامه بدولة قومية إثيوبية مركزية قوية.
وبعد وصول آبي أحمد إلى السلطة أعاد هيكلة القوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات، واعتقل 79 من مديري الشركات العمومية وقيادات الجيش ورجال الأعمال، وجميعهم من أبناء قومية تيغراي بتهم الفساد. واعتبر تيغراي سلوك رئيس الوزراء هذا هجوماً ضد قوميتهم، معللين بأنه كان بمقدوره تقديم حالات بعينها إلى القضاء. ووصف بعضهم الإجراء بممارسة الفصل العنصري، فيما أعاد بعضهم الآخر السبب إلى إسقاط آبي أحمد للنظام الفيدرالي المنصوص عليه في دستور 1995.
هل هو تطهير عرقي؟
ويشير تقرير مشترك لمنظمتي العفو الدولية ومراقبة حقوق الإنسان الأميركية، بعنوان “التطهير العرقي الخفي في إثيوبيا”، إلى أن ما يجرى منذ عام ونصف العام في إثيوبيا هو تطهير عرقي ضد قومية تيغراي، تشترك فيه القوات الفيدرالية الإثيوبية وحلفائها من القوات الإريترية وقوات منطقة أمهرة الإثيوبية، ضد عناصر ’جبهة تحرير شعب تيغراي‘ التي قادت سابقاً التحالف الحاكم في إثيوبيا”. ولفت التقرير إلى أنه فور استعادة الميليشيات الأمهرية السيطرة على تيغراي الغربية نكلت بأبناء تيغراي وارتكبت أبشع الجرائم ضدهم.
وتعتبر أراضي تيغراي الغربية الواقعة في الشمال الغربي الإثيوبي والمحاذية للسودان وإريتريا من أخصب الأراضي الزراعية، وقد ضمتها حكومة ميليس زيناوي في 1990 إلى إقليم تيغراي، ما أحدث صراعاً حول الحدود والهوية، لأن الأمهرة اعتبروا هذا التقسيم ضماً لأراض تابعة لقوميتهم. وإبان الحرب الأخيرة قتلت ميليشيات الأمهرة وهجرت آلافاً من أبناء تيغراي، فيما قتلت ميليشيات تيغراي عديداً من الأمهرة، وتصاعدت بعدها حروب الانتقام العرقية.
وما زال التحشيد السياسي سيد الموقف حتى قبل الإعلان الأخير للجبهة قبولها بوقف لإطلاق النار، إذ أكد رئيس الوزراء في الأسابيع الماضية موقفه من أن “جبهة تحرير شعب تيغراي” منظمة إرهابية وهي سرطان ينبغي اجتثاثه، وأن الحرب الجارية هي حرب وجودية بالنسبة إلى إثيوبيا. وهو خطاب يؤجج التصفيات على أساس عرقي، فيما أعلن الناطق الرسمي للجبهة أن حكومة آبي أحمد تمكنت من خداع المجتمع الدولي بشأن جديتها في مساعي السلام. وتبادلت الحكومة والجبهة الاتهامات بشأن بدء عمليات عسكرية واسعة.
احتياجات السلام الاثيوبي!
وخلال السنوات الماضية كادت التقييمات الدولية أن تجمع على المكانة الجيوستراتيجية التي يمكن أن تلعبها إثيوبيا في المنطقة، وحتى يتأتى حدوث ذلك فإثيوبيا بحاجة إلى قيادة جامعة تضمن استقرار الشعوب الإثيوبية وتعاونها وتكاملها وحماية حقوقها التي كفلها الدستور الإثيوبي الاتحادي.
وإثيوبيا بحاجة إلى قيادة قادرة على مد يدها كما فعلت مع الجارة إريتريا لحل النزاعات الإقليمية، وخصوصاً تلك المتصلة بسد النهضة مع دول حوض النيل وتحديداً السودان ومصر، انطلاقاً من مبدأ لا ضرر ولا ضرار.
وإثيوبيا الدولة الأفريقية العريقة بحاجة إلى الحكيم والقائد الأفريقي الذي يحفظ مكانتها الإقليمية والقارية، موحد الدولة، وليست بحاجة إلى من ينكأ جراح الصراعات العرقية، وتداول السلطة عبر جولات العنف، الأمر الذي يستدعي التحرك الفوري للحكومة الإثيوبية من أجل إعادة تموضع قواتها الاتحادية في معسكراتها السابقة، وانسحاب القوات الإريترية والمليشيات الأمهرية، والسماح بوصول المنظمات الإغاثية، وإجراء تحقيق في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت.
فالسلام الإثيوبي والانتصار لمبدأ الدولة الاتحادية التي كانت وما زالت نموذجاً يتطلع اليمنيون إلى نجاحه نظراً لأهمية تطبيقه في الحالة اليمنية التي تشهد اشتباكاً تاريخياً ذا طبيعة مناطقية وطائفية، فإثيوبيا هي الدولة الشقيقة التي تربطنا بها وشائج عميقة تعود إلى نشأة التاريخ البشري.