«ماكرون» و«الناتو».. بوادر استياء الحلفاء
جاكوب هايلبرن
عشية الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، وقبل أقل من شهر على احتفال «الناتو» بالذكرى السبعين لتأسيسه في لندن، يربك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحفل. فخلال مقابلة مع مجلة «ذي إيكونوميست» مؤخراً، عبّر ماكرون عن استيائه من الحلف العسكري، معلناً أن رئاسة دونالد ترامب أصابته بـ«موت دماغي». زملاؤه من القادة الأوروبيين رفضوا تصريحاته باعتبارها بياناً فرنسياً غير لائق، وفي هذا الصدد، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم الخميس الماضي: «إن هذا الرأي لا يتوافق مع رأيي»، بينما وصف أمين عام «الناتو» يانس ستولتنبرغ ألمانيا بكونها «في قلب الناتو». والحال أنه يجدر بهما أن يقبلا هذه الحقيقة.
فماكرون محق. والشيء المفاجئ ليس هو أن «الناتو» بات موصولاً بجهاز التنفس الاصطناعي حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة، وإنما هو أن التحالف دام واستمر كل هذه الفترة.
والواقع أن «الناتو» يُعد ضحية لنجاحه من عدة نواح. ففي 1957، قال «لورد إسماي»، وهو أول أمين عام للحلف، إن هدف «الناتو» هو «الإبقاء على الروس في الخارج، والأميركيين في الداخل، والألمان مكبوحين». هذه الصيغة نجحت. ولكن بعد 1989، ومع تراجع روسيا وصعود ألمانيا من جديد، انكب «الناتو» على البحث عن صيغة جديدة. فاستبدل عقيدة بعملية عبر قراره توسيع عضويته بدلاً من أن يعمل على تحديد مهمته الجديدة. وعبّد موقفُه المرحّب بأعضاء جدد، عن غير قصد، الطريقَ لمواجهة جديدة مع موسكو في وقت بات يجاور فيه الآن حدودَ روسيا بشكل مباشر. والنتيجة كانت نوعاً من الديمومة الجيوسياسية: ذلك أن «الناتو» ساعد على التسبب في المواجهة نفسها التي سمحت له بتبرير استمرار وجوده.
حتى الآن، سمح التهديد الروسي المعاد إحياؤه باستمرار الحلف، وبعض مسؤولي ترامب مثل وزير الخارجية «مايك بومبيو» يحتضنونه. فيوم الخميس من الأسبوع ما قبل الأخير، وخلال زيارة رسمية إلى ألمانيا للاحتفال بذكرى إعادة التوحيد، قال بومبيو: «إن الناتو ما زال مهماً وأساسياً، وربما يمثّل تاريخياً إحدى أكثر الشراكات أهمية واستراتيجية في كل التاريخ». أنصار التحالف يمكنهم أيضاً أن يشيروا إلى زيادة في عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في أوروبا ومناورات «الناتو» المقبلة «المدافع 2020» التي ستعرف مشاركة أكثر من 37 ألف جندي أميركي.
ولكن أفعال ترامب وخطابه توحي بأنه يريد توديع التحالف، ذلك أن استعداده السماح لتركيا بمهاجمة الأكراد، وإشادته اللافتة بروسيا، وتنديده المستمر بألمانيا تمثل أدلة كافية على ازدرائه للحلفاء الغربيين.
وفي تحذير بشأن ترامب، وضع ماكرون أصبعه على مشكلة أساسية، ألا وهي شعار «الفرسان الثلاثة» الذي تبناه الحلف: الجميع من أجل واحد وواحد من أجل الجميع. وعندما سئل حول ما إن كان يؤمن بإعلان المادة 5 (من ميثاق الحلف) واجبات الدفاع المشترك عندما يتعرض عضو لهجوم، أجاب ماكرون: «لا أعرف».
والأكيد أن مثل هذه الشكوك ستزداد وتتقوى إذا فاز ترامب بإعادة الانتخاب في 2020 وازداد قوة لمواصلة مسار «أميركا أولاً» الذي اختار المضي فيه. ذلك أن ترامب أكد أنه ينظر إلى العلاقات مع الحلفاء كمشروع تجاري، حيث يفترض بهم أن يدفعوا الأموال من أجل الحماية، ولكن الاحتمال الأكبر هو أن دعم الرئيس لحلفاء أميركا في أزمة حقيقية سيكون مشابهاً ربما لدعمه لشركائه في مشاريعه التجارية السابقة. ولهذا، فإن تخوفات ماكرون بشأن تضعضع «الناتو» صحيحة وجاءت في وقتها المناسب.
ماذا يمكن فعله؟ لقد حان الأوان لكي تخطو فرنسا وألمانيا خطوات حقيقية لجعل أوروبا عظيمة من جديد. وهذا سيتطلب منهما التأسيس لتعاون سياسي ألماني- فرنسي مشترك من أجل تأكيد مصالحهما، بما في ذلك التطوير المشترك لأسلحة نووية جديدة لردع روسيا والصين. كما من شأن ذلك أن يسمح لأوروبا باكتساب موقف مستقل عن ولايات متحدة ما فتئت تزداد عدائية.
والواقع أنه من الممكن دائما أن تتبنى فرنسا وألمانيا طريق أقل قدر من المقاومة وتسعى لتهدئة روسيا تسعى للانتقام عبر التنازل لها عن منطقة نفوذ فعلية في البلطيق وأوروبا الشرقية. غير أن ثمة بعض المؤشرات الواعدة: فبعد عقود من الكوابح الذاتية بشأن إمكانية إعادة التسلح، أخذت ألمانيا أخيراً تبدي مؤشرات على وعي متزايد بأهمية دور عسكري أكبر لألمانيا في التحديات الدولية الحالية. وفي هذا الصدد، ألقت وزيرة الدفاع الألمانية الشجاعة، أنيغريت كرامب كارنباور التي تسعى لتقوية مؤهلاتها لخلافة ميركل كمستشارة، خطاباً مهماً بجامعة «بوندسفير» في ميونيخ الخميس قبل الماضي، أعلنت فيه أنه ينبغي لألمانيا أن تشارك عسكرياً في آسيا للمساعدة على احتواء الصين، وأن تصبح ثالث أكبر منفق على الدفاع (خلف الصين والولايات المتحدة) بحلول 2031.
ومن جانبه، ما فتئ ماكرون يدفع في اتجاه «مبادرة تدخل أوروبية» يفترض أن تسمح لأوروبا بالعمل بشكل مستقل عن «الناتو» أو الولايات المتحدة. وعليه، فعندما يجتمعون مع ترامب خلال الشهر الجاري، يجدر بالقادة الأوروبيين التعامل مع الاحتفالات في لندن كإحياء لأشياء مضت أكثر منها كتأكيد على دور «الناتو».