متى يعترف المجتمع الدولي بفشله في ليبيا
الوضع في ليبيا ليس على ما يرام، المشهد يبدو ضبابيا ومن الصعب تحديد خيوط اللعبة من وراء ستائر الصراع. هناك انقسام معلن وانقسامات داخل الانقسام، وهناك مصالح وأجندات وحسابات وخارطة جيوسياسية إقليمية لا تزال قيد الرسم. هناك فشل واضح للمجتمع الدولي مرتبط برغبة العواصم الإقليمية والدولية المؤثرة في إدامة الأزمة إلى حين تبين كل طرف من حجم النصيب الذي قد يحصل عليه من الغنيمة. وهناك ثروة يتم إهدارها بشكل غير مسبوق بين كبار اللصوص المتمترسين وراء مصاطب السلطة.
خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت ليبيا صراعا على منصب رئيس مجلس الدولة انتهى مبدئيا لفائدة خالد المشري، وصراعا على منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي لا يزال مستعرا بين أصحاب القرار سواء في داخل البلاد أو في خارجها. وهناك معركة لا تزال تدور رحاها بين مجلس النواب والمجلس الرئاسي الذي يبدو أن رئيسه محمد المنفي قرر التمرد على حسابات الانتماء القبلي والجهوي لفائدة التحالف مع رئيس حكومة الوحدة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة.
الغريب أن القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا ستيفاني خوري استهجنت الإجراءات أحادية الجانب من قبل شخصيات سياسية وأمنية تقوض الاستقرار بطرق مختلفة، وفق قولها. الغرابة تكمن في أن المسؤولة الأممية تصف قرارات قيادات الجيش في شرق البلاد بأنها أحادية الجانب، وتصرفات الميليشيات في المنطقة الغربية بأنها كذلك أحادية الجانب. وكأنها تستغرب عدم التنسيق بين الطرفين، في حين لا سلطات الشرق تعترف بسلطات الغرب، ولا سلطات الغرب تعترف بسلطات الشرق، ولا الجيش يعترف بالميليشيات ولا الميليشيات تعترف بالجيش. في طرابلس بالذات، تتصرف كل ميليشيا على أنها سلطة مستقلة بقرارها، ومن الطبيعي أن رئيس الحكومة لا يخرج عن دائرة مريديه من أصحاب المصالح الأسرية والجهوية المرتبطة بموقعه في السلطة، وأن رئيس المجلس الرئاسي يسعى للحفاظ على امتيازاته في سياق توازنات ليست في صالحه دائما، بينما ترى النائب العام مجتهدا في محاربة الفساد وفق ما تفرضه موازين القوى على أن لا يلاحق أيا من أمراء الحرب أو قادة الميليشيات المتورطين في سفك دماء الأبرياء ممّن يتم التعامل معهم على أنهم أرقام على الهامش.
عددت خوري بعض الأحداث التي شهدتها البلاد مؤخرا: في 9 أغسطس – آب، قام الجيش الوطني الليبي بتحركات أحادية الجانب نحو الأجزاء الجنوبية الغربية من ليبيا، ما دفع القوات والتشكيلات في غرب البلاد إلى التعبئة وتأكيد جاهزيتها للرد على أي هجوم. وبينما أوضح الجيش الوطني الليبي لاحقا أن هدفه من تحريك هذه القوات هو تأمين الحدود الجنوبية الغربية، فإن هذه الخطوة تسببت في توترات في الغرب وأثارت مخاوف لدى الجزائر، الدولة الجارة لليبيا. ولا يقتصر هذا النوع من التحركات الأمنية أحادية الجانب على تحركات القوات من شرق ليبيا وغربها فحسب، وإنما يمتد أيضا إلى ما بين القوات والمجموعات المسلحة في الغرب.
في 23 يوليو – تموز، تحركت القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية غربا، ما تسبب في إعلان التعبئة من قبل الجيش الوطني الليبي وبين المجموعات المسلحة في تلك المنطقة.
في 9 أغسطس – آب، اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة في تاجوراء، شرق طرابلس، بين مجموعتين مسلحتين، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين وتدمير الممتلكات. وقد نجحت جهود الوساطة المحلية في نزع فتيل التوتر.
عندما ننظر إلى هذه النقاط التي أشارت إليها المسؤولة الأممية، ندرك أن أخطر خرق أمني هو المواجهات التي شهدتها تاجوراء في التاسع من أغسطس، وأدت إلى سقوط تسعة قتلى وعدد من الجرحى. لاحقا، أعلن عن سقوط قتيلين في مقر الكتيبة التي تم استهدافها سابقا، وقد تبين أن السبب الحقيقي للمواجهة هو صراع النفوذ بين الجماعات المسلحة متباينة الولاءات، والتي كان بعضها بصدد التجهيز للهجوم على مصرف ليبيا المركزي.
توصلت خوري إلى استنتاج مفاده أن الوضع القائم غير مستدام، وأن الوضع، في غياب استئناف محادثات سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة موحدة وتنظيم الانتخابات، يتجه إلى المزيد من عدم الاستقرار السياسي والمالي والأمني، وإلى تكريس الانقسامات السياسية والمناطقية، وإلى الرفع من حالة عدم الاستقرار المحلي والإقليمي.
كما استنتجت أن الليبيين محبطون من الوضع القائم والثمن الذي يفرضه على حياتهم اليومية. حيث عليهم أن يكافحوا لسحب الأموال من البنوك وتلبية احتياجاتهم اليومية. وهم لا يتوانون عن التعبير عن تخوفهم من اندلاع الحرب مرة أخرى أو من الاشتباكات بين الجماعات شديدة التسليح. كما أنهم يصرحون بتخوفهم من التعبير الحر عن آرائهم دون تهديدات. ولا يرى الشباب مستقبلا، إلا محاولة المغادرة. وهذا أمر غير مقبول.
المجتمع الدولي الذي كان من السهل عليه أن ينفذ خطة خراب ليبيا في العام 2011، لم يستطع في السنوات الـ13 التي تلت الإطاحة بالنظام، أن يحقق هدفا واحدا من أهدافه المعلنة. فلا هو حقق الأمن والاستقرار، ولا هو حمى أرواح المدنيين من عبث المسلحين، ولا هو حقق الديمقراطية، ولا أعاد توحيد مؤسسات الدولة، ولا أفلح في تنظيم الانتخابات.
قالت خوري إن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تركز الآن مساعيها الحميدة: أولا، على المساعدة في تهدئة التوترات. وثانيا، على الحفاظ على الاستقرار وتعزيز تدابير بناء الثقة بين أصحاب المصلحة الرئيسيين. وثالثا، على التحضير لعقد محادثات سياسية بقيادة ليبية. وأكدت أن تعزيز العملية السياسية، مع الحفاظ على الاستقرار، يشكل أولوية رئيسية للبعثة.
بالطبع هذا الكلام ليس جديدا، وقد استمعنا إليه من غسان سلامة وستيفاني وليامز ويان كوبيتش وعبدالله باتيلي وغيرهم. وهو لا يصب إلا في اتجاه التأكيد على أن الجهود الأممية لا تساوي شيئا طالما أن الملف الليبي تتقاذفه مصالح القوى الإقليمية والدولية الفاسدة التي لا تهتم إلا بمصالحها، والتي يمكن أن تدعم الإرهاب عندما يخدم مصالحها كما يحدث حاليا في الساحل والصحراء، ويمكن أن تحافظ على ديمومة الصراع عندما تخشى من سلام على الأرض ووفاق بين الفرقاء لا يخدمان مصالحها. وهي في كل الحالات غير مهتمة بوضع الشعب الليبي قدر اهتمامها بتدفق النفط والغاز نحو الأسواق العالمية وبعقد الصفقات الكبرى وتوقيع الاعتمادات المستندية وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي وضمان الظروف الملائمة للإبقاء على الأموال المجمدة في مصارف الغرب قيد التجميد في واحدة من أكبر عمليات النهب الممنهج لثروة دولة من دول العالم الثالث.
قالت خوري إن “المضي قدما في عملية سياسية ناجحة سيتطلب جهودا صادقة من جانب القادة والجهات السياسية والأمنية الفاعلة، ويستوجب مشاركة طيف أوسع من الليبيين، ومقاربة منسقة لدعم المحادثات الليبية من قبل المجتمع الدولي”. وأكدت أن “دعم المجتمع الدولي للجهود التي تقودها ليبيا أمر لا غنى عنه”، وأنها ستواصل “العمل لتحقيق هذا الأمر من خلال إشراك أعضاء المجتمع الدبلوماسي في ليبيا، وتنسيق المواقف معهم، وفي العواصم الخارجية استعدادا لإطلاق المسار الموازي من المحادثات السياسية”. وهي بذلك لا تخرج عن دائرة الإنشاء، ولا عن طاحونة الشيء المعتاد، ويمكن القول إنها جاءت إلى منصبها الحالي لتضمن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، ولتمسك بخيوط الأزمة ولكن دون تحريكها في أي اتجاه. فالحل السياسي الذي يصنعه الليبيون بأنفسهم غير مرغوب، وحتى لو توصل إليه الفرقاء فإن أطرافا دولية بعينها ستعمل على عرقلته، طالما أنها غير متأكدة من أنه سيخدم مصالحها ويحقق لها أهدافها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية والجيوسياسية.