مصر وتركيا.. من العداء إلى المنافسة الاستراتيجية
محمد أبو الفضل
لا تلغي المنافسة الاستراتيجية العداء بين الدول، فهناك قوى عديدة تتصارع حول المصالح ومراكز النفوذ. كما أن الخصومة لا تلغي المنافسة بمعانيها المختلفة.
وإذا جرى الفصل في العلن فقد تظهر البصمات في بعض المحكات، وتتقدم إحداهما على الأخرى، أو يتم المزج والفصل بينهما أحيانا وفقا للمنافع التي يمكن تحقيقها.
خضعت معادلة المنافسة والعداء بين مصر وتركيا للتذبذب، صعودا وهبوطا، قبل تضخم تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، واستقرت داخل مربع العداء بين البلدين عقب سقوط حكم الإخوان بمصر في 3 يوليو 2013، ومنذ ذلك الوقت تعامل النظام التركي مع ما جرى في القاهرة على أنه ضربة موجعة لمشروعه الإسلامي، بما دفعه لاختيار العداء وسيلة في إدارة العلاقات مع مصر.
تدفقت مياه سياسية وأمنية في هذا البحر على مدار أكثر من سبع سنوات احتضنت فيها أنقرة الآلاف من قيادات جماعة الإخوان وكوادرها والمتحالفين معها، والانتهازيين الذين استثمروا في تصاعد حدة الخلاف بين البلدين، ووفرت لهم دعما سخيا في المجالات السياسية والأمنية والإعلامية أسفرت نتيجته عن هزيمة معنوية للتوجهات التركية.
توصل الرئيس أردوغان إلى قناعة بأن استمرار العداء مع مصر يفضي إلى المزيد من الخسائر المحلية والإقليمية والدولية، ورأى أن الهدوء والتقارب والاتجاه إلى المنافسة ربما يمنحه تفوقا أفضل، فالندية ترفع عنه اللوم بسبب احتضان الإخوان، و تبرر أن هناك تحولات حقيقية في الرؤى الخارجية، والتي تتجاوز، ولو مؤقتا، استنادا للتقية الدينية، مسألة رعاية ودعم التيار الإسلامي بألوانه المتعددة، فهو يعرف كيف يتغير.
نظر الرجل بجدية إلى ضرورة القيام باستدارة واضحة مع مصر والانتقال من مربع العداء إلى المنافسة الهادئة مؤخرا، أو بمعنى أدق تغيير الأدوات وتوظيفها للوصول إلى النتيجة نفسها بطريقة ناعمة، ما يمثل جدوى كبيرة له في المستقبل.
أقدمت أنقرة على تبني خطاب ودّي، وقامت بتصرفات عملية محدودة، وأعلنت عن تفاهمات الفترة المقبلة، على أمل أن تثبت حُسن النوايا وتبدد الهواجس والشكوك، وتؤكد أنها حريصة على تذويب الهوة وتطبيع العلاقات مع مصر، وعلى استعداد لتحويل الخلاف إلى صداقة، أو منافسة استراتيجية لا تخلو من عداء مستتر.
انجذبت مصر ببطء نحو الملامح التركية، وكلما انتابها شعور بالمناورة وعدم الثقة في ممارسات أنقرة أو احتمال جرها إلى خديعة قامت الأخيرة بتبديد المخاوف بتصريحات إنسانية وتحركات تتوافق مع التطلعات المصرية في بعض القضايا الخلافية، أملا في تثبيت فكرة أن التغيير حقيقي، وعلى مصر ودول المنطقة الاستعداد للتعامل مع تركيا جديدة بأجندة مغايرة.
وجدت الحسابات التركية أن المضي في معركة استنزاف الخصوم، وفي مقدمتهم مصر، كبدها خسائر جمّة، وتكلفة إيواء جماعة الإخوان ورعايتها ومواصلة سلوك الغطرسة لن تستطيع أنقرة تحملها.
اهتدت إلى أن التفاهم مع القاهرة هو مفتاح تعزيز التقارب مع دول خليجية عدة، وحل لكثير من أزماتها في شرق البحر المتوسط، ويحافظ على مصالحها المتشابكة في ليبيا التي دفعتها إلى استخدام المرتزقة والمتطرفين كأسلحة نافذة.
وتأكدت أن المتاجرة بالإخوان واستخدامهم للضغط على مصر لم يعودا منتجين، وبدأت تقويض الاعتماد عليهم والتحلل مما سببوه لها من مشكلات، ومحاولة طمأنة مصر ببعض التنازلات السياسية والإعلامية الهامشية، والسعي للتوصل إلى صيغة تغلق هذا الملف بطريقة مرضية أو تضعه على الرف بصورة مؤقتة.
لعبت التحديات الإقليمية التي تواجهها تركيا ومصر دورا مهما في ترطيب الأجواء، والخروج من شرنقة صراع يضع استمراره ضغوطا على كاهل كل دولة، وبدا التخلص من المنغصات ضرورة، والتوصل إلى صيغة وسط تخفف وطأة العداء وتدخله حيز منافسة تصعد أو تهبط دون أن تصل إلى مستوى الصدام.
يمنح حصر الخلاف في الإطار، وبعيدا عن التدخلات السافرة في الشؤون الداخلية، مزايا نسبية لتركيا، فلو أخمدت ورقة الإخوان، وأخرجت المرتزقة من ليبيا، وساعدت القاهرة في حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، قد تحصل على مقابل ذلك في بعض القضايا الإقليمية، أو على الأقل توقف مطاردة مصر وتقنعها بأنها لن تمثل تهديدا لها.
تريد أنقرة الوصول مع القاهرة إلى نتيجة تنهي المطاردة والملاحقة، والتحول إلى مجال المنافسة الاستراتيجية، وهي تدرك أن الكفة سوف تكون في صالحها عندما تتغير الانطباعات السلبية عنها وتبدأ في الهجوم على خصومها بطريقة سلمية.
أدى تبني تركيا للإخوان والتيارات المتطرفة ودعمهم إلى مواجهة النظام المصري وخسارة كبيرة في صورتها الذهنية لدى قطاع كبير من المصريين، وأوقف الطموحات الواعدة في مجال التبادل الاقتصادي، وعرقل أحلامها في التأثير والسيطرة على مقاليد أمور كثيرة في المنطقة.
شعرت القاهرة أن تضخم أنقرة على المستوى الإقليمي لن يكون في مصالحها، ولذلك راقبت وتابعت تصرفاتها، وسببت لها قلقا في أوقات كثيرة، وحرمتها من نقاط تفوق كان يمكن أن تحرزها في بعض دول المنطقة، ما جعل إصرارها على التقارب مع مصر تكمن خلفه أهداف حيوية أبعد من قصة الإخوان والمرتزقة.
توارثت دول الجوار العربي، مثل تركيا وإيران وإسرائيل، فكرة أن مصر عقبة رئيسية أمام أي تمدد أو تأثير لها في المنطقة، والدخول في صراع مباشر معها لن ينهكها، بل يوفر لها ذريعة للتسلح بالقوة العسكرية، كأكبر بلد عربي.
أسهم احتدام الصراع مع تركيا بسبب تدخلاتها المستفزة في ليبيا، وغطرستها في شرق المتوسط، ودعم الإخوان والمتطرفين في المنطقة، في استنفار القوة المصرية الشاملة لحرمانها من الحصول على مزايا استراتيجية كبيرة في المنطقة، وأن فكرة العداء والصدام والإنهاك المباشر لم تعد مفيدة، ومن الواجب التقارب مع مصر لطي هذه الحرب وروافدها المزعجة للبلدين.
تتحسب القاهرة من سيناريوهات خفية لتركيا، وتعلم أن رغبتها في التوصل إلى تسويات لبعض الأزمات معها لا يعبر عن تغير جوهري في سلوكها، لكنها بحاجة إلى تسكين ملفات إقليمية، وتحديد الأولويات، وهو ما يدفعها نحو التجاوب مع الإشارات القادمة من أنقرة، والقبول بتحويل العداء إلى منافسة استراتيجية.
بدأت القاهرة تستعد مبكرا لهذا النوع من المنافسات عبر نسج شبكة من العلاقات المتعددة، والتوازن في التوجهات حيال القوى الكبرى، وعدم التهاون في تعزيز مصادر القوة العسكرية، والانفتاح على فضاءات متنوعة، فضلا عن تبني مشروعات كبيرة للإصلاح الاقتصادي واستثمار الجغرافيا السياسية في تعظيم مكاسبها، وبالتالي سوف تحدد نتيجة المنافسة الطرف الذي يمكنه فرض إملاءاته على الآخر في المنطقة.