مقولة نزع الذرائع.. بين التهوين والتهويل

محسن أبو رمضان

يردد قطاع واسع من المثقفين والسياسيين والإعلامين والمهتمين بالشأن العام مقولة «نزع الذرائع».. وينقسم المتفاعلون مع هذه المقولة إلى مجموعتين.

تعمل المجموعة الأولى على التهوين، بل الاستخفاف بهذه المقولة، ولا سيما ما يتعلق بالصراع مع دولة الاحتلال عبر تكرار مقولة إن الاحتلال لا يحتاج إلى ذرائع. ويدللون على ذلك بأنه يتبني الخطط، ويسير بها باتجاه التنفيذ، كالاستيطان والتهويد ومصادرة الأراضي والتمييز العنصري والتطهير العرقي، وذلك بغض النظر عن المبررات أو الذرائع .

أما المجموعة الثانية فترى أهمية ومحورية هذه المقولة، وتعمل على التضخيم بها، باعتبار أن وجودها يشكل السبب وليس فقط المبرر لقيام دولة الاحتلال بتنفيذ مخططاتها العدوانية والاستعمارية بحق الشعب الفلسطيني.

أعتقد أن قادة المشروع الصهيوني وتجسيده المادي دولة الاحتلال وحكومتها، وهي الآن الأكثر فاشية ويمينية وعنصرية في تاريخ دولة الاحتلال، يعملون على صياغة الخطط ووضع التصورات والبرامج والآليات لتنفيذ مخططاتهم، وتستغل  اللحظة المناسبة لتنفيذها، خاصة إذا كانت هذه الخطط ذات طبيعة استئصالية ودموية، ومن الممكن أن تصدم المجتمع الدولي وتخلق ردود أفعال غاضبة على دولة الاحتلال، مثل عمليات القتل اليومي والإبادة الجماعية التي تحدث في غزة على مرأى ومسمع من البشرية، تمهيدًا لتنفيذ عمليات من الإخلاء القسري والتطهير العرقي.

إن حالات العدوان ذات الطبيعة الدموية والوحشية تحتاج بها دولة الاحتلال إلى ذرائع ومبررات لتنفيذها .

لقد ضخمت حكومة الاحتلال من أحداث السابع من أكتوبر للعام 2023، وبصورة كبيرة، واختلقت الأكاذيب والقصص المفبركة، وذلك لتصوير أن ما حدث شكَّل تهديدًا وجوديًّا عليهم، وقاموا بإطلاق ألفاظ عنصرية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة مثل (حيوانات بشرية) وأنه لايوجد أبرياء، بما في ذلك الأطفال الذين شرعوا في استهدافهم دون مراعاة للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان والقواعد الناظمة للحروب التي تحيد المدنين والمستشفيات عن الصراع وتوجب حمايتهم .

منذ الثامن من أكتوبر للعام 2023 وبدء العدوان العسكري الاحتلالي على قطاع غزة كان واضحًا أن الهدف لم يكن الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة، بل تدمير قطاع غزة وجعله مكانًا غير مناسب للعيش تمهيدًا لتنفيذ عمليات من التهجير تنفيذًا لمخطط المشروع الصهيوني المبني على طرد السكان الأصليين وإحلال المستوطنين الصهاينة الجدد على انقاض القطاع.

وبعد أن تراجع مخطط التهجير نسبيًا بسبب الرفض المصري والأردني وصمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، عاد وتم استحضاره من جديد، متسلحين بما أسموه رؤية ترمب التي اقترح بها طرد أهالي غزة وتحويل القطاع إلى «ريفيرا الشرق الأوسط».

يقوم جيش الاحتلال بعد استئناف العملية العسكرية التي بدأت قبل حوالي أسبوعين من الآن، وذلك بعد انقلاب نتنياهو على اتفاق 19 يناير الذي أبرم بالدوحة، بالعمل على استكمال عمليات الإبادة الجماعية والمحرقة، إلى جانب تشريح قطاع غزة وتقسيمه إلى معازل وكنتونات، بالإضافة إلى زج التجمعات السكانية في منطقة محدودة المساحة، ليصبح من السهل التخلص منهم عبر عملية التهجير الذي يسمونه طوعيًا، ولكنه سيكون قسريا بهذه الحالة.

هل هذا يعني أنه لو لم تتم عملية السابع من أكتوبر لما قام الاحتلال بتنفيذ جرائمه ومخططاته في قطاع غزة.

ربما سيخترع ذرائع ومبررات أخرى، وبالمقابل ربما لما تجرأ على كل هذه الأعمال الدموية والبربرية والوحشية بحق الشعب الفلسطيني.

لقد شجع الصمت الدولي والشراكة الأميركية دولة الاحتلال لمد مخططاتها إلى الضفة الغربية، بالرغم من عدم وجود مبرر عنوانه المقاومة، بل بهدف إعادة هندسة المخيمات وتصفية قضية اللاجئين، وفرض نظام من الجزر والمعازل بالضفة، محاطا بمحيط استيطاني .

لقد شجع هذا الصمت والتقاعس والشراكة دولة الاحتلال على الاعتداء على لبنان وسوريا، وأصبح نتنياهو يتبجح بوقاحة عن قيامه بتشكيل شرق أوسط جديد.

صحيح أن هذا المخطط سواء بحق القضية الفلسطينية أو المنطقة العربية كان قيد التخطيط الصهيوني، بوصف دولة الاحتلال هي دولة استيطان وتوسع استعمارية، ولكن الصحيح كذلك أنها استغلت الأحداث الجارية في غزة لتسريع تنفيذ مخططاتها وترجمتها على الأرض.

وبخصوص ذلك فمن الممكن نزع الذرائع من دولة الاحتلال حماية للشعب، وهذا حق مشروع، لكن هل إذا تم ذلك سيؤدي إلى وقف مسلسل القتل والتدمير والتطهير العرقي؟.

وفي هذا السياق تتزايد الأصوات المطالبة الآن من حماس بالتخلي عن إدارة قطاع غزة والخروج من المشهد السياسي والإداري والميداني، وكذلك إبداء مرونة تجاه مقترحات صفقة الأسرى والرهائن .

ورغم أنني أشك في أن دولة الاحتلال ستوقف المجزرة إذا استجابت حماس لشروطها، إلا أنه لا ضير من اتباع تكتيك نزع الذرائع من دولة الاحتلال، ولكن بحكمة بحيث لا تفسر بأنها شكل من أشكال الاستسلام .

إن عدم استسلام حماس مهم جدا للشعب الفلسطيني، وذلك بهدف الإبقاء على فكرة المقاومة طالما استمر الاحتلال.

من الممكن أن تقوم حماس بمقترحات قد تجنبها عملية تحمل المسؤولية تجاه ما يحدث، وهو ما ظهر من بعض الأوساط وعبر بعض الفاعليات الشعبية التي تمت بالقطاع، وهي مطالب مبررة نتيجة شدة العدوان المستمر لحوالي ثمانية عشر شهرا، الذي حول القطاع إلى ركام من الدمار .

من الممكن أن تبادر حماس للطلب من السلطة الفلسطينية تشكيل وفد مشترك للمفاوضات تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، أسوة بما تم بحرب عام 2014، والطلب عبر هذا الوفد من مصر والجامعة العربية ومن اللجنة السداسية العربية تولي ملف انسحاب جيش الاحتلال من القطاع، وتحديد معالم اليوم التالي وفق الخطة المصرية العربية، وذلك في مواجهة خطة ترامب ونتنياهو التهجيرية .

لست واثقا بأن هذا التكتيك من الممكن أن يكون مفيدًا وسيؤدي إلى وقف المجزرة، لكن لا بأس من استخدامه لنزع الذرائع ورمي الكرة بملعب الاحتلال الذي سيواجه بهذه الحالة الموقف العربي الموحد .

لقد أشار وزير الخارجية الأميركي الأسبق اليهودي والصهيوني بلينكن إلى أن إسرائيل اختصرت عشر سنوات لتنفيذ مخططاتها بحق القضية الفلسطينية، وهذا يشير إلى أن الخطط كانت جاهزة، ولكن تم استعجال تنفيذها  .

وفي واقع الأمر قد يتجاوز المخطط الهدف المتوقع تنفيذه مرحليا إلى أبعاد استراتيجية .

فلا أعتقد أن قطاع غزة كان في إطار الاستهداف بالتطهير العرقي، بل أن تدحرج  ديناميات العدوان العسكري أدى لوضعه في عين العاصفة، وأصبح يحظى بأولوية بما يتعلق بالتطهير العرقي الذي إن نجح سيعملون على تنفيذه بالضفة الغربية .

وعليه، فليس من المناسب التهوين من مقولة نزع الذرائع، وليس من المناسب التهويل بها .

من هنا يجب التفكير بحكمة بما يتعلق بالتكتيكات وبأشكال النضال الأنسب القادرة على تحقيق الهدف دون إعطاء الاحتلال المبررات للبطش بالشعب الفلسطيني وتنفيذ مخططاته الدموية بحقه، علما بأن جميع أشكال النضال مشروعة بفعل القانون الدولي، وهي حق وواجب للشعب الذي يخضع للاحتلال .



مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى