من يتصارع مع من في السودان
محمد أبو الفضل
من الخطأ اختزال الأزمة السياسية في السودان بين عسكريين ومدنيين، فكل فريق تخترقه الكثير من الخلافات ولا يخلو أيضا من تفاهمات مع الآخر. والحديث عن مظاهرات خرجت السبت مدعومة من عسكريين يخلّ بأهداف من انخرطوا فيها، والتركيز على أن مظاهرات الخميس المقبل مدعومة من المدنيين يحرفها عن الحقيقة.
لا يعرف الكثيرون من يتصارع مع من في السودان، وهل هو صراع على السلطة أم خلاف لضبط بوصلتها، فمظاهرات السبت ضمت طيفا واسعا من القوى السياسية المدنية وحركات مسلحة ووزراء في الحكومة الحالية التي كان العنوان الرئيسي للمظاهرات المطالبة بإقالتها بما يصب في صالح العسكريين.
كيف يجتمع كل هؤلاء مع فلول من النظام السابق الذين أشارت تلميحات رئيس الحكومة عبدالله حمدوك إلى أنهم يلعبون دورا في تكسير عظامه السياسية بالخروج إلى الشارع، ويثير هذا الربط معلومات يتداولها سودانيون حول تحالف مكتوم بين الفلول والجيش، الأمر الذي يبدو بعيدا عن الخطوات التي تتبعها المؤسسة العسكرية لتقويض الفلول داخلها وخارجها والكشف عن محاولة انقلاب فاشلة لعبوا دورا في تحريكها.
إذا كان حمدوك على يقين تام بأن الفلول يخربون في السودان عبر تغلغلهم في بعض الأجهزة الأمنية، فلماذا عقد حلفاء له في قوى الحرية والتغيير لقاءات معهم؟ بل هو نفسه التقى بقيادات محسوبة على الحركة الإسلامية في وقت سابق، وبدا غير ممانع في ممارستها أنشطة سياسية كدليل على استيعابه كل القوى السودانية.
في غمرة الحملة المناهضة للمؤسسة العسكرية وضع سودانيون قياداتها في بوتقة واحدة ومصير واحد، وهم يعلمون أن بينهم خلافات وصلت إلى درجة التجاذبات على الملأ بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، أي بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو.
يعلم هؤلاء أن هناك جيوشا في السودان وليس جيشا واحدا عند إضافة الفصائل المسلحة التي تحتفظ بمعداتها العسكرية في أماكن معلومة، وإضافة ما يسمى بالميليشيات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي التي جرى تشكيلها خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، ولا أحد يعرف بالضبط مصيرها حتى الآن.
يدير حمدوك حكومة مكونة من موزاييك يضم مجموعة من القوى السياسية التي لها ولاءات وانتماءات مختلفة، وتحوي وزراء تم تعيينهم من قبل المؤسسة العسكرية، فمن يضمن أن إقالتها يمكن أن تأتي بتشكيل يحقق توازنا ينهي الأزمة الراهنة.
تفضي عملية الإقالة في هذه الأجواء إلى التضييق على الحكومة الجديدة وتظهرها كتابع للمؤسسة العسكرية، فتوسيع قاعدتها حق يراد به باطل. حق لمشاركة عناصر مدنية استبعدت من الحكومة السابقة. وباطل لأنها تقلص نفوذ قوى الحرية والتغيير في تشكيل ما تبقى من هياكل حوتها الوثيقة الدستورية مثل المجلس التشريعي.
يؤدي التفتيش في أطراف الأزمة إلى وجود أطراف في الأقاليم أو ما يوصف بالهامش، وجميعها لها ولاءات متغيرة ومن الصعب احتسابها على عسكريين أو مدنيين، فقد تنحاز لهؤلاء ثم تنقلب إلى جانب الفريق الآخر، ويمكن أن تقودها المصالح إلى مسك العصا من منتصفها، وتظهر انحيازا للطرفين معا، ما يعني عدم حسابها على فريق معين، خاصة أنها تضم قيادات بينها خلافات قابلة للانفجار.
تتجاهل بعض الأطراف أن هناك قوى لا تزال خارج تصنيف العسكريين والمدنيين، وتضم الحركات المسلحة التي لم توقع على اتفاق سلام نهائي مع السلطة الانتقالية، حيث تعثر مسار الحوار مع الحركة الشعبية جناح عبدالعزيز الحلو ودخل نفقا مجهولا، ولم يتحرك أصلا الحوار مع حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد نور.
لذلك فالمعادلة القائمة حاليا على أن القوى المشاركة في السلطة أو على هامشها هي كل العناصر التي يجب مشاركتها في الحكومة يشوبها خطأ، فإعادة التشكيل لن تراعي الحركات التي لم توقع على اتفاق سلام، أو تريد تعديل مساره كما هو حاصل بشأن مسار الشرق، بالتالي أي حكومة ستواجه مأزقا عندما تحدث تغيرات جديدة.
كما أن هناك تصنيفات خارجية غير دقيقة، فالبعض يحسب مصر على المكون العسكري في السودان، بينما يضع إثيوبيا في خانة المكون المدني، في إسقاط يستثمر رواسب أزمة سد النهضة، ناهيك عن قوى إقليمية ودولية يتم تصنيفها وفقا لمخزون السودانيين عنها وتصوراتهم عن أنظمتها، وميراث من التقديرات الصماء المسبقة.
قد تُحسب غالبية الدول العربية على العسكريين باعتبارها تحكم من قبل أنظمة لا تعتد كثيرا بالقيم الديمقراطية، والعكس في حالة الدول الغربية بحسبانها تؤمن بدور المجتمع المدني وأهمية باب الحريات ولها مواقف واضحة في هذا الإطار، وتضاف إلى ذلك الجهات الداعمة لتيار الإسلام السياسي ولا تريد إعدامه في السودان.
ما يستحق الإشارة إليه هنا أن المسألة ليست بالسطحية على الصعيد الخارجي والتقسيمات المتداولة، ولن تخوض دولة عربية حربا أو تحرم السودان من مساعداتها لأجل انتصار المكون العسكري وما يتبناه من قناعات يراها البعض خشنة ومضرة بمستقبل البلاد، ولن تتورط دولة غربية في مساندة المكون المدني دعما لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية أو توفر له مساعدات مادية تسهم في عبور الأزمة الاقتصادية.
يقود التشابك بين القوى المختلفة إلى تشابك في المواقف الخارجية وغموض في الحدود الفاصلة بينها، ومن الصعوبة القطع بأن كل مكون له مؤيدون أو معارضون معروفون يعملون طوال الوقت لضمان تفوقه وقمع خصومه، لأن كل طرف يملك من الخيوط ما يمكنه من الانفتاح على الجميع، وكل دولة تسعى للحفاظ على مصالحها مع السودان لن تقع في خطأ تصنيف مع من وضد من.
يرخي البعد الخارجي بظلاله على الكثير من الأزمات بما يحد أو يزيد من قدرة كل طرف، لكن عند حد معين لا تصلح هذه القاعدة لتطبيقها في السودان، فإذا كانت الدولة مهددة بعدم الأمن والاستقرار في حالة صعود المكون المدني ونظيره العسكري الوحيد القادر على منع التدهور سيكون الانحياز إليه سافرا من قبل بعض القوى.
تحاول قوى غربية عدم الوصول إلى هذا الخيار وتستخدم في خطابها مساحة جيدة من الليونة لإيجاد قواسم مشتركة بين الجانبين، فواقع السودان المعقد لا تصلح معه تصنيفات تقليدية من نوعية مع أو ضد، ومحاولة إنقاذه تتطلب حكمة ورشادة سياسية، ففي الوقت الذي يستشعر فيه مكون أنه أقوى من الآخر داخليا وخارجيا سوف ينقض عليه ويبطش به من دون حساب لما يمكن أن يسفر عنه من عواقب.