من يلتقط شظايا القرن الأفريقي
محمد أبو الفضل
تتوالى التطورات التي تثبت أن الولايات المتحدة لا تملك خطة واضحة للتعامل مع الأوضاع المتفجرة في أماكن مختلفة، حيث تشير استقالة السفير جيفري فيلتمان المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي أخيرا إلى أن الرجل أخفق في تفكيك تعقيدات هذه المنطقة الحيوية، وأن هناك قوى كبرى يمكن أن تلتقط هذا الإخفاق وتستغل النزاعات المتناثرة لتثبيت وجودها في ظل فشل أميركي فاضح.
تؤكد المعلومات المتداولة أن السفير المنتهية ولايته في تركيا ديفيد ساترفيلد سيخلف فيلتمان في المنصب، ومهما كانت مؤهلات الرجل فالمشكلة تكمن في من يرسم السياسات ويحدد طبيعتها وأهدافها وليس في من يقوم بتنفيذها، الأمر الذي كشفه سوء تعامل إدارة جو بايدن مع الكثير من الأزمات الإقليمية، وفي مقدمتها أزمات القرن الأفريقي.
نجحت دول الخليج في التعامل مع الانسحاب الأميركي من المنطقة، وبادرت بنسج شبكة من الروابط قادتها إلى تطوير العلاقات مع كل من روسيا والصين، والانفتاح على تركيا، والاستعداد لعقد مصالحة مع إيران تضمن توفير الأمن في منطقة الخليج.
يختلف الوضع في القرن الأفريقي عن الخليج، فغالبية دوله منخرطة في صراعات داخلية أو خارجية، أو الاثنتيْن معا، ولا توجد بيئة مناسبة لعقد مصالحات، وهي المهمة التي يمكن أن تفتح الطريق لقوى أخرى لتتقدم المشهد بعدما تأكدت أن واشنطن مرتبكة أكثر من اللازم وتعاملها مع الأزمات يفتقر لتخطيط يمكنها من تقديم حلول منتجة.
دخلت الولايات المتحدة في اختبارات عدة في الفترة التي تولى فيها فيلتمان ملف القرن الأفريقي ولم يفشل فقط في إخماد النيران العسكرية والسياسية، لكنه عزز القناعات بأن بلاده لا تملك خارطة طريق لأي من أزمات المنطقة، وهي إشارة كانت كافية ليفهم المتابعون أنها تعكس غياب استراتيجية حاولت إدارة بايدن إثبات عكسها.
أكد تعامل الإدارة الأميركية مع الصراع الملتهب في إقليم تيغراي أنها غير قادرة على بلورة رؤية تجبر الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على الانصياع للنداءات والتهديدات والوساطات، وبدا فيلتمان عاجزا عن أداء مهمته السياسية، وأن إدارته مكبلة في إجبار الطرفين المتصارعين على وقف الاقتتال.
تكررت القصة في السودان الذي أضاع التعاطي الأميركي المهزوز مع أزمته جانبا من هيبة واشنطن في المنطقة، ويكفي أن رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان قام بخطوة الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي على الحكومة المدنية بعد ساعات قليلة من لقاء جمعه بفيلتمان في الخرطوم.
كانت هذه الخطوة علامة قوية للتدليل على أن نفوذ واشنطن يتلاشى فعلا في السودان، وضاعفت طريقة التعاطي مع الأحداث التالية هذا التقدير الذي يعني في محصلته أن واشنطن لم تعد معنية بالتدخل في أزمات مستعصية، ولا تملك رؤية ووقتا كافيين لبذل جهود حقيقية والاشتباك مع أزمات هذه المنطقة.
يمكن أيضا قراءة التدخل الأميركي في أزمة سد النهضة الإثيوبي بدءا من نهاية عهد الرئيس السابق دونالد ترامب حتى عهد جو بايدن للوصول إلى النتيجة ذاتها، فقد عجزت الإدارتان على ممارسة ضغوط تجبر الأطراف الثلاثة، مصر وإثيوبيا والسودان، على تنفيذ الخطة التي وضعت لتسوية الأزمة في عهد ترامب، والتي انهارت تماما حاليا في عهد بايدن.
ينسدّ أفق التحركات الدبلوماسية الأميركية وتعجز واشنطن عن بلورة اهتمامها الظاهر في شكل خطوات عملية، وبدلا من أن تعضد علاقاتها مع الدول الثلاث بحل توفيقي تفرضه بنفوذها انسحبت تقريبا من إدارة الأزمة، بما مكّن وسوف يمكّن قوى أخرى من الدخول على خطوطها والمتاجرة السياسية بها، وربما تتحول إلى بوابة لزيادة حضورها بالاستفادة من الفراغ الأميركي.
ومن أبرز القوى الدولية الساعية لتوظيف شظايا القرن الأفريقي الصين وروسيا، والأولى نجحت في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دول مختلفة، وباتت رقما في الكثير من معادلاتها، والثانية تقترب منها واتخذت خطوات عملية باتجاه كل من إثيوبيا والسودان، وهما البلدان اللذان بدأت صورة الولايات المتحدة تتآكل فيهما سياسيا.
لا تتوقف قدرة الدول الساعية لصناعة النفوذ في أي منطقة على مدى النجاح في إطفاء الحرائق ووقف الصراعات وإخماد الأزمات، بل أيضا على الاستفادة من الارتدادات السياسية الناجمة عن ذلك والاستثمار في تراجع نفوذ القوى التقليدية المنافسة، وهو ما تبدو ملامحه واضحة في القرن الأفريقي.
التقطت الصين طرف الخيط مبكرا وحققت مقارباتها الاقتصادية تقدما، والتقطت روسيا الطرف الثاني مؤخرا وبدأ تعاونها العسكري ينعكس في شكل تحسن ملحوظ في المساحة التي تتحرك فيها. وما لم تدركه واشنطن، أو تدركه، أن كلا من بكين وموسكو لعبتا دورا مهما في تقويض النفوذ الأميركي، فظهورهما على الساحة الدولية عموما، وفي منطقة القرن الأفريقي خصوصا، ساعد دولها على تقليل نسبة الاستجابة لضغوط الولايات المتحدة من خلال المناورة السياسية بهما على الأقل.
تضاف تركيا إلى هاتين القوتين، وظهرت بوادر تسلل أكثر من محسوس عبر تدعيم علاقتها مع أديس أبابا، وتمركز أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال، والسعي لوضع قدمها في جزيرة سواكن السودانية وهي إطلالة لا تستهدف فقط القرن الأفريقي، إذ توحي بأن عين أنقرة على الضفة الأخرى للبحر الأحمر، حيث اليمن والسعودية.
إذا كان قرار واشنطن بالانسحاب من بعض المناطق، أو بمعنى أدق بالتحلل من التزامات متباينة قامت بها خلال العقود الماضية، جاء على خلفية تقديرات استراتيجية ذهبت إلى أهمية التراجع في الوقت الراهن، فإن ظهور قوى منافسة كبيرة تمتلك وفرة في الأدوات والخيارات قد تسبب في تقليص حركتها ومنح الدول المستهدفة جرأة في إظهار قدر من الممانعة لبعض التصورات الأميركية.
لدى الولايات المتحدة دوافعها الاستراتيجية لوقف الانخراط في الأزمات، لكنها تتجاهل أنه أداة لتوسيع نطاق السيطرة، وهو ما تقوم به الصين وروسيا في منطقة القرن الأفريقي، فقد نسمع عن مبادرات لحلحلة جديدة في أزمة الصومال المستمرة منذ نحو ثلاثة عقود، وربما نرى تحركات لوأد الاقتتال الداخلي في إثيوبيا.
وصلت واشنطن إلى مستوى تفتقر فيه إلى القدرة على الحل، وهي الزاوية الخطرة التي كشفها تعاملها مع أزمتي إثيوبيا والسودان، لذلك فوجود ساترفيلد أو غيره لن يضيف شيئا، حيث عجز سلفه فيلتمان عن تحريك ولو جزء بسيط من المياه الراكدة.
تنصب مهمة المبعوث الجديد في آلية إدارة الأزمات كعملية سياسية مهمتها الرئيسية المحافظة على الوجود الأميركي الرمزي في المنطقة، فالمراوحة التي تعيشها الولايات المتحدة على الصعيد العالمي لن تمكنها من الانهماك في أزمات القرن الأفريقي وسط انشغالها بضبط مفاصل أكثر أهمية في استراتيجيتها الكونية.
ما يمكن توقعه خلال الفترة المقبلة في القرن الأفريقي أن هذه المنطقة التي كانت واشنطن قاطرتها المركزية على مدار عقود ويلهث خلفها الآخرون سوف تؤدي التوازنات الصاعدة فيها إلى تفوق الصين وروسيا لتلهث الولايات المتحدة خلفهما لتقليل خسائرها.