واشنطن تكتشف أخطار اليمن
بدت الولايات المتحدة ترتجل على عجل تحالف “حارس الازدهار” الدولي للسهر على أمن البحر الأحمر والممرات البحرية في المنطقة. وبدا وفق ذلك أن للتحالف مهام تصدٍ وإحباط وردع ولا يملك قرار الذهاب بعيداً في اجتثاث الجهة التي تقف وراء الأخطار المهدِّدة للملاحة الدولية وسلاسل التوريد في المنطقة.
وفيما يدين وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن وقوف إيران وراء “الجماعات الإرهابية” التي تستهدف سفن الشحن التجارية، لم يفصح عن هوية هذه الجماعات طالما أن واشنطن نفسها لا تعتبر أن الحوثيين جماعة إرهابية، لا بل سارعت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن وفي الأيام الأولى لدخوله إلى البيت الأبيض إلى “تصويب” ما قامت به إدارة السلف الجمهوري دونالد ترامب حين أدرجت الجماعة على لوائح الأرهاب، فأزالتها من تلك القوائم.
وعلى الرغم من خطورة الإثم الذي استدعى ترتيب تحالف دولي، فإن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي أطلّ ليعلن بخجل ان الإدارة في واشنطن “تدرس” إعادة إدراج الحوثيين على لوائح الإرهاب، بما عبّر عن تلميح افتراضي لا يرقى إلى مستوى الحدث.
وفق نسخة الردع الأميركية في البحر الأحمر (أعلنها أوستن من البحرين في 19 ديسمبر الجاري عقب زيارة له إلى إسرائيل)، توفّرت لطهران أوراق الردّ السريع. فجأة أعلن قائد القوة البحرية في الحرس الثوري الأدميرال علي رضا تنغسيري أن بلاده نظمت قوات الباسيج البحرية للمحيطات والسفن والقطع البحرية الأخرى القادرة على الإبحار حتى تنزانيا. تحدث عن قوة قوامها 55 ألف عنصر و33 ألف قطعة بحرية في مياه الخليج في مرحلة أولى على أن تباشر في مرحلة تالية مهمتها في بحر قزوين.
وإذا ما اعتبر هجوم حماس في 7 اكتوبر وحراك حزب الله لاحقاً إطلالة إيرانية على البحر المتوسط، فإن طهران تبلغ من يهمه الأمر بأنها تملك مفاتيح في مياه المنطقة وبرّها وأنها رقم صعب للسلم في بحار الشرق الأوسط وممراته المائية الدولية. وكان وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني قد حذر قبل أسبوع الولايات المتحدة من “مواجهة مشاكل استثنائية إذا أرادت تشكيل قوة دولية لحماية الملاحة في البحر الأحمر” وقال إنه “لا يمكن لأحد التحرك في منطقة اليد العليا فيها لإيران”.
تنقل صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مصار أمنية أن معلومات التتبع التي جمعتها سفينة مراقبة في البحر الأحمر تسيطر عليها القوات شبه العسكرية الإيرانية، تم تسليمها إلى الحوثيين، الذين استخدموها لمهاجمة السفن التجارية التي تمر عبر مضيق باب المندب في الأيام الأخيرة.
وفق حسابات إيران وقراءتها للمشهد الدولي لم يأخذ الحوثيون أمر حلف “حارس الازدهار” على محمل الجد. لاحظوا أن بلدان كثيرة ومنها تلك المطلّة على البحر الأحمر لم تستجب للورشة الأميركية البحرية وأن مشاركة بعض المنخرطين في هذا التحالف تبدو رمزية. استنتجوا أيضا أن حشد السفن العسكرية الدولية لا يشكل خطرا وجوديا على الجماعة، وأن لا قرار سياسيا للتعامل معها عسكريا وأن أي ضربات جراحية لن تمثل تهديدا، بهذا المستوى، لنفوذها في صنعاء والمناطق اليمنية التي تسيطر عليها.
عبر البحر الأحمر من الشمال حيث قناة السويس ومن الجنوب حيث باب المندب تمر نسبة عالية من اقتصاد العالم وموارده الطاقوية. 30 بالمئة من حركة سفن الحاويات العالمية تتحرك عبر القناة و7.1 مليون برميل من النفط و 4.5 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي تتدفق يوميا عبر المضيق. صار سلوك رأس الرجاء الصالح الأكثر تكلفة في الوقت والمال أأمن الطرق لسفن شركات الشحن الكبرى التي قد لا تستجيب سريعا لـ”الممر الآمن” الذي تَعِد به واشنطن وتحالفها.
بدا أيضا أن مناسبة تشكيل الحلف البحري الدولي “إسرائيلية” وتندرج ضمن جهود واشنطن وحلفائها لدعم وحماية إسرائيل. وعلى هذا ظهرت ركاكة سياسية لحلف واشنطن في وقت يتصدّع فيه الاجماع الدولي إزاء الحرب في غزة. وظهر أيضا أن حسابات يومية وليس بالضرورة استراتيجية مدروسة طويلة الأجل باتت تتحكم بإيقاع القرارات التي تصدر من واشنطن.
من يراقب البيئة التي ولد داخلها التحالف البحري الدولي أمكنه ملاحظة متانة وقوة مفاعيل اتفاق بكين بين السعودبة وإيران الموقّع في 10 مارس الماضي. صارت بلدان المنطقة أقل إيمانا بالأحلاف الأمنية التي تنتجها الولايات المتحدة وأقرب إلى انتهاج سبل وخيارات تأخذ بعين الاعتبار مصالح البلدان المطلّة على البحر الأحمر وإراداتها في الحفاظ على أمن واستقرار المياه التي تطل عليها. وحين استقبل وزير الخارجية المصري سامح شكري نظيره البريطاني ديفيد كاميرون أبلغه أن “أمن البحر مسؤولية بلدانه”.
بدا أيضا أن دول المنطقة غير مستعدة للانخراط في أي جهد دولي معاد لإيران لا يتّسق مع مصالح المنطقة وتوقيتها وأجندات علاقاتها مع طهران. أمكن أيضا استنتاج استقرار قرار خليجي بإنهاء الحرب في اليمن والتعويل على المفاوضات لإنهاء حالة الحرب والبناء على المحادثات التي أجرتها وفود الحوثيين في السعودية للاهتداء إلى تسوية لأزمة اليمن. وفق تلك المسلّمات بدت واشنطن مرتبكة في ما تقترحه من خيارات أمان في البحر الأحمر.
تكتشف الولايات المتحدة الأخطار التي تطلّ من اليمن وهي التي لطالما ماطلت وتلكأت وتعايشت مع أزمة البلد بمقاربات خبيثة. تذهب بعض القراءات الأمنية إلى لفت الأنظار إلى أن تأمين البحر الأحمر يقتضي ضرب رصيد الحوثيين من الصواريخ والمسيّرات ما يستدعي حربا كبرى. قراءات أخرى ترى أن الأمر يحتاج إلى ضرب الرعاة في إيران ما يستدعي حربا أكبر. وما دون ذلك، وفي غياب قوى كبرى عن التحالف، لا سيما الصين المستفيد الأكبر من عبور بضائعها، فإن واشنطن لا تعالج العلّة بل تتعايش مع حوافها، فيما السيّر على حافة الهاوية هو حرفة إيران الأولى ولها فيها تجارب ودروس.