وثائق: خارطة متكاملة لمخطط الإخوان لضرب الاقتصاد المصري
كانت شمس منتصف أغسطس/آب عام 2013 في طريقها للمغيب، بينما بدا المشهد في مصر للمراقب الخارجي مفزعاً، إذ صبت آلة العبث الإخواني جنونها على امتداد البلاد حرقاً وقتلاً.
وفي مساء يوم 14 أغسطس/آب قبل 5 أعوام، كانت أعمدة الدخان تتصاعد من 132 كنيسة و32 قسماً للشرطة بمحافظات الجيزة والمنيا والقاهرة والإسكندرية وبني سويف والقليوبية والشرقية.
للوهلة الأولى بدا الأمر كرد فعل هستيري من جماعة إرهابية، هالها المشهد المهيب لخروج مظاهرات حاشدة قدرت بالملايين ضد حكم لم يدم سوى عام واحد، لكن الأيام التالية تكفلت بكشف الحقيقة.
فلم تكن الفوضى سوى الجزء الهين من مخطط جماعة الإخوان الإرهابية، للرد على عزلها من الحكم، وقد تكفل به كوادر الجماعة المجبولون على “الطاعة”، أما شقه الآخر فقد ترك لأباطرة المال وحملة مفاتيح خزائن إمبراطورتيها الاقتصادية الضخمة.
وفيما بعد 2013، التي شهدت سقوط الإخوان عن حكم مصر، رسمت الجماعة مخططاً جديداً لضرب الاقتصاد انتقاماً للسقوط، يعتمد على توسيع نطاق العمليات الإرهابية لتحجيم رقعة الاستثمار، والتلاعب بالسوق المصرية بجمع العملات ورفع سعر الدولار، لإفساد بيئة الاستثمار الأجنبي.
في مركز ناءٍ على أطراف الجيزة غرب العاصمة المصرية، بدأت رحلتنا للكشف عن شبكة أشبه بالمافيا أنفق قادة الجماعة الإرهابية نحو 4 عقود على بنائها.
وفي منزل متواضع بـ”أوسيم” على أطراف الجيزة، استقبلنا من سنعرفه باسم محمد، وهو موظف سابق بشركة حسن مالك، أحد أبرز رجال الأعمال في إمبراطورية الإخوان الاقتصادية، والمتهم الأول بالقضية رقم 721 حصر أمن دولة عليا والمعروفة إعلامياً باسم “الإضرار بالاقتصاد القومي”.
لم يكن كرم محمد وحُسن ضيافته يقلان بحال عن إصراره على الاعتصام بالصمت أمام الأسئلة، وبعدما يزيد على ساعتين من محاولة إقناعه قرر أن يدلي بشهادته.
التحق محمد بالعمل في شركة مالك جروب المملوكة لحسن مالك بفرعها الرئيسي في منطقة مصر الجديدة شرق القاهرة في عام 2009.
وخلال السنوات الأولى من عمله، التي امتدت خمس أعوام، أدرك أن ثمة جانباً مظلماً في عمل الشركة وملفات لم تكن متاحة للجميع، فقط حفنة صغيرة تحيط بمالك يعمل غالبيتهم بالحسابات وأمانة الخزينة، وبخلاف هذا الجانب الغامض بدا كل شيء طبيعياً لكن الأمور تغيرت بحلول ربيع 2011.
“كان الحديث الدائر في أرجاء المكان أن مجموعة مالك جروب ستتوسع بشكل ضخم وستعقد شراكات واسعة مع شركات عالمية”، يقول محمد، قبل أن يضيف “كانت الوفود الأجنبية تتردد على المقر بشكل مستمر، وفي إحدى المرات سمعت من موظف كبير في الشركة أنه يجري دراسة ضم بعض الشركات المتعثرة من القطاع العام”.
وفي يونيو/حزيران 2013 كانت الأمور في طريقها للتغير مجدداً وهذه المرة إلى مسار عكسي.
كان الإجراء الأول، بحسب محمد، عمليات سحب مبالغ مالية كبيرة من البنوك وإيداعها بمقر الشركة.. “أذكر أنه تم نقل أوراق ومستندات كثيرة من الشركة في تلك الفترة لكن لا أعرف المكان الذي نقلت إليه”، وكان ثمة شخص آخر يعرف.
كان فارس عبدالجواد أشبه بلغز، فالرجل الذي يفترض أنه يملك الإجابة عن الأسئلة يغيب عن محركات البحث، كما غاب هو نفسه عن مسكنه بمدينة السلام شرق القاهرة منذ عام 2015، لكن لحسن الحظ يظهر في أوراق القضية 721 حصر أمن دولة عليا.
مهمتنا الصعبة كانت الحصول على ملفات القضية المقيدة برقم 721 حصر أمن دولة عليا، والمحاطة بسرية كبيرة لكونها قضية تتعلق بالأمن القومي بشكل مباشر، وبعد مهمة عمل استغرقت نحو شهر، حصلنا على الملفات القضائية الخاصة بالقضية كاملة، فضلاً عن معلومات غاية في الأهمية والخطورة من مصادر قضائية وأمنية مصرية مطلعة على الملف الشائك.
كان محمد يعرف عبدالجواد (الخمسيني) باعتباره أحد أهم مساعدي حسن مالك والمحاسب الأول بشركة مالك جروب، لكن الوثائق التي عثرت بحوزته تشير إلى ما هو أخطر.
وبحسب أوراق القضية، فقد عثر بحوزة الرجل على ملف مكون من 6 ورقات يشمل خطة عمل اللجان النوعية، المسؤولة عن العمل المسلح بالتنظيم لمدة 3 أشهر بالقطاعات الجغرافية المختلفة، وملزمة مكونة من 14 ورقة بها أسماء شركات بدول خليجية، وشركات أخرى في الولايات المتحدة، وملحق آخر به خريطة خطوط الغاز في مصر.
وترسم الوثائق خريطة متكاملة لمخطط الإخوان لضرب الاقتصاد المصري، وآلية ضخ مبالغ ضخمة في مسارب التنظيمات الإرهابية بسيناء، كما تعطي صورة متكاملة عن الملف المالي داخل مافيا الجماعة.
في بلد يعتمد على الاستيراد إلى حد بعيد، ولا يزال يتعافى من أزمة اقتصادية ضاغطة، ويعاني من إشكاليات هيكلية عميقة، وبالكاد بدء في تطبيق برنامجه الإصلاحي كانت نقطة الضعف تتمثل في سعر صرف الدولار.
وبحسب البيانات الرسمية، كانت مصر تحتاج إلى نحو مليار ونصف المليار دولار شهرياً (11.7مليار جنيه) لتوفير حاجتها من السلع الاستراتيجية في عام 2015.
كان الجانب الأكبر من المخاطر يأتي مما وراء البحار؛ حيث عمد مغامرون محترفون في أوروبا والولايات المتحدة على المضاربة في الأسواق الناشئة، فيما يعرف بالأموال الساخنة، وتكفل الإخوان بالضغط لمضاعفة الأزمة.
وعملية نقل الأموال خارج البلاد كانت بمثابة ضرب عصفورين بحجر واحد بالنسبة لتنظيم الإخوان، فمن جهة تسمح للجماعة بالإفلات من مسعى السلطات في مصر لتجفيف منابع الإرهاب، ومن جهة أخرى إرباك المشهد السياسي في البلاد بالضغط على الاقتصاد.
وكانت السلطات المصرية قد بدأت عملياً منذ أواخر 2013 في مصادرة أموال التنظيم الإرهابي، وضمت قائمة أملاك الجماعة التي شملتها قرارات التحفظ أموال 1589 عنصراً من المنتمين والداعمين للإخوان، و118 شركة متنوعة النشاط، و1133 جمعية أهلية، و104 مدارس، و69 مستشفى، و33 موقعاً إلكترونياً، وقناة فضائية.
وكشفت الوثائق أنه عقب ضبط عدد من قيادات التنظيم الإرهابي ومصادرة أموالهم، وضعت الجماعة مخططاً يستهدف ضرب الاقتصاد المصري من خلال تهريب النقد الأجنبي خارج البلاد باستغلال مؤسساتها المالية، بالتزامن مع توفير الدعم المالي لعناصرها ولجانها النوعية لتنفيذ العمليات المسلحة في مصر.
ويقول الدكتور عبدالمنعم السيد،مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، إن “الجماعة بدأت بالفعل في استراتيجية ذات شقين الأول الحيلولة دون دخول الدولار إلى البلاد، وقد اعتمدوا في ذلك على شراء العملة من المصريين في الخارج عبر وسطاء”.
وتمثل تحويلات المصريين في الخارج مصدراً مهماً للعملة الأجنبية للبلاد.
وسجلت تحويلات المصريين في الخارج أدنى مستوى لها خلال سنوات الصراع الخمس من 2013 إلى 2019 في العام المالي 2015-2016؛ حيث بلغت في 17.1 مليار دولار (132.6 مليار جنيه)، (متوسط سعر الدولار في 2015 هو 7.8 جنيه)، بانخفاض مليار ونصف المليار دولار عن العام المالي السابق.
أما الشق الثاني من المخطط الإخواني فقد اعتمد على سحب الدولار من السوق المحلي وتهريبه إلى الخارج، لمضاعفة الشعور بالأزمة وإعادة إنتاج حلقتها الجهنمية.
كانت السوق السوداء لتجارة العملية واقعاً اعتيادياً في البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي، وخلال سنوات الأزمة في 2013 كانت هامش التفاوت بين السعر الرسمي لسعر صرف الدولار والسوق السوداء يلامس حدود نصف الجنيه، لكن بحلول عام 2016 كان الدولار يسجل رقماً قياسياً في السوق السوداء بفارق نحو 4 جنيهات عن سعره الرسمي.
كان واضحاً أن ثمة تلاعباً لكن الشهور الثلاثة الأخيرة من العام 2015 كانت حاسمة، إذ نشطت عمليات تعطيش السوق بسحب كميات كبيره من الدولار وتهريبها للخارج.
وفي تلك الفترة أعلن نائب محافظ البنك المركزي المصري إغلاق 53 شركة صرافة، بسبب التلاعب في سوق العملة؛ منها 26 شركة تم إغلاقها نهائياً و27 شركة تم إغلاقها ما بين 3 أشهر وعام”.
وقد أدى النشاط الإخواني المحموم في عمليات شراء الدولار في الداخل إلى رصده أمنياً.
وفي مطلع يناير/كانون الثاني عام 2016، أوقفت السلطات الأمنية شاباً في الثلاثينيات من عمره، فيما كان ينتظر في مبنى الركاب بمطار القاهرة في رحلة إلى الأردن. وفي أوراق القضية 721 حصر أمن الدولة العليا جانب من قصته.
كان مصطفى همام يحمل أثناء القبض عليه ما يعادل مليون و650 ألف دولار (12.870مليون جنيه)، وثلاثة هواتف محمولة، وجواز سفر وتذاكر طيران، وخطاباً منسوباً لشركة صرافة يتضمن أن المبلغ موجه لصالح إحدى الشركات المملوكة للإخوان والعاملة في مجال الاستيراد والتصدير. لكن اعترافات همام خلال تحقيقات القضية، قادت على الكشف عن جانب من الشبكة الإخوانية.
ووفقاً للوثائق، كلف حسن مالك وشريكه عبدالرحمن محمد مصطفى سعودي، عدداً من عناصر التنظيم وهم: أحمد سعيد أحمد أبوالمعاطي، وكرم عبدالوهاب عبدالجليل، وفاتن أحمد إسماعيل، ونجدت يحيى بسيوني، وأشرف أبوزيد، وأحمد أبوزيد، وفارس السيد عبدالجواد، وإسلام طه، بتهريب الأموال خارج البلاد عبر شركات الصرافة التابعة للتنظيم، وأبرزها شركتا التوحيد والنوران للصرافة المملوكتان للمتهم كرم عبدالجليل، والغربية للصرافة المملوكة للمتهم نجدت يحيى.
ظلت عمليات تهريب الأموال عبر الشبكة الإخوانية تتم عبر الباب الواسع لمطار القاهرة الدولي، وقد بلغ نصيب هذا الجانب منها نحو ملياري جنيه، بحسب بيان للنائب العام السابق.
وقال مصدر قضائي مطلع إن التنظيم الإرهابي نجح في تهريب نحو 160 مليون دولار (الدولار كان يعادل 7.80 جنيه مصري) خارج مصر، في الفترة التي أعقبت ثورة 30 يونيو/حزيران، مشيراً إلى أن البلاد شهدت فترة سيولة ساعدت الجماعة في تنفيذ مخططها.
وأوضح المصدر أن الأموال نُقلت إلى دول خليجية وعربية بمساعدة بعض الفاسدين من العاملين بمطار القاهرة والميناء البحري.
وفي مقابل رشوة مالية تقدر بمليوني جنيه مصري، سهّل ثلاثة من أفراد الأمن العاملين بمطار القاهرة عملية نقل الدولار خارج البلاد.
وفي حقائب وطرود كرتونية مرت من خلال بوابات الخدمة المميزة (vip) باعتبارها حقائب خاصة بمستثمرين ورجال أعمال سافرت، ومعظم الأموال المهربة على متن الخطوط الجوية إلى شركة الكمال للصرافة بدولة عربية، باعتبارها طروداً خاصة بشركتي استيراد وتصدير المفروشات والروضة للصرافة في عمليات متعاقبة، دون أن تمرر عبر بوابات وأجهزة التفتيش، أو الكشف عن الحقائب المؤدية للمنطقة الجمركية بميناء القاهرة الجوي.
وتواصلنا مع (م.أ) أحد أهم الشهود في القضية، وكان يعمل بقطاع الأمن في مطار القاهرة وقت الحادث، وقال إن القانون المصري يجيز للمسافرين حمل مبلغ مالي لا يتجاوز 10 آلاف دولار، لكن بوابات الخدمة المميزة بالمطار عادة تسند لشخص واحد فقط من الموظفين، لأن أعداد المارين منها قليلة، وهو السبب المهم في تسهيل خروج الأموال بعد تلقي الرشوة.
وأكد أنه أدلى بشهادته مفصلة أمام المحكمة، وتم معاقبة المتهمين المسؤولين عن الواقعة وفصلهم من العمل نهائياً.
وكان النائب العام المصري السابق المستشار نبيل أحمد صادق أصدر قراراً نهاية عام 2017 بإحالة 3 أمناء شرطة إلى محكمة الجنايات بتهمة طلب وقبول رشوة مقابل المساعدة في تهريب حوالي ملياري جنيه خارج البلاد على مرات متعاقبة عبر بوابات وأجهزة تفتيش المنطقة الجمركية بميناء القاهرة الجوي دون ضبطها، وفق ما نشرته الصحافة المحلية وقتها.