وماذا بعد تأجيل الانتخابات؟
ماجد كيالي
على الرغم من أن الشارع الفلسطيني لم يتفاجأ بقرار تأجيل عملية الانتخابات، وربما الأصح إلغاؤها، إلا أن الصدمة كانت قوية، إذ رغم توفر قناعة عامة مفادها أن تلك الانتخابات لن تغيّر من أحوال الفلسطينيين تحت الاحتلال كثيراً، إلا أن توقهم للتغيير السياسي الداخلي وأملهم بإحداث فارق، ولو بسيط، يزحزح الطبقة السياسية المهيمنة كان وراء حماسهم لتلك العملية.
هكذا فإن التأجيل لم يكن مفاجئا البتة، رغم الصدمة التي أحدثها، ذلك أن التمهيد لذلك القرار تم في فترة مبكرة، أي بعد أن تبين للرئيس أبومازن أن كل محاولاته “هندسة” العملية الانتخابية، عبر قوانين أو قرارات أو إجراءات بعينها، على الصعيد الفلسطيني وعلى صعيد حركة فتح، بحيث تصبّ في طاحونته، قد فشلت، وأن النجاح في تلك العملية ليس مضمونا، ما يذكّر بتجربة الانتخابات السابقة، التي خسرت فيها فتح في مقابل حماس.
وطبعا كان من علامات ذلك تصدّع وحدة حركة فتح عبر، أولاً، إعلان الأسير المناضل مروان البرغوثي، وهو عضو لجنة مركزية في حركة فتح، ترشحه لمنصب الرئيس في الانتخابات الرئاسية، ولو في مقابل الرئيس محمود عباس ذاته، كما أعلن عن معايير معينة للأسماء المرشحة على قائمة فتح الرسمية، وهو ما لا يروق ولا يناسب قيادة فتح. ثانيا، مبادرة ناصر القدوة، وهو عضو لجنة مركزية في حركة فتح أيضا، المتمثلة بإعلانه التمرد على رئيسه، وإعلانه تأسيس “الملتقى الوطني الديمقراطي”، ومن ثم تشكيله قائمة موحدة للانتخابات (الحرية)، التي تضم أنصار البرغوثي مع شخصيات من كتلته. ثالثا، دخول قائمة لتيار “الإصلاح” المحسوبة على القيادي محمد دحلان المفصول من فتح منذ سنوات، وهي قائمة تتمتع بشعبية في قطاع عزة.
وعدا عن تصدع وحدة فتح، وخروج الأمر عن السيطرة، فقد تفاقم الأمر بسبب من عاملين، أولهما، الإقبال الشديد على التسجيل في اللوائح الانتخابية (93 في المئة من أصحاب حق الاقتراع أغلبيتهم من الشباب)، ما يعزز من فرضية خروج الأمر عن السيطرة. وثانيهما، تعثر إمكان تشكيل قائمة موحدة مع حركة حماس، إذ كانت ثمة مراهنة على إمكان تشكيل مثل تلك القائمة، التي كان من شأنها، لو حصلت، أن تضمن حصة معينة لمرشحي القيادة الرسمية لفتح، ما يشكل حالة ضغط على الأطراف أو القوائم المتمردة على فتح الرسمية، ويضعف فرصها في النجاح، لكنّ ذلك لم يحصل.
تلك هي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الانقلاب على العملية التفاوضية، وكانت قصة الانتخاب في القدس مجرد ذريعة، مع علمنا أن القيادة الفلسطينية تعرف سلفا أن إسرائيل لن توافق، وأن العديد من الأطراف طرحت بدائل، أو طرحت إمكان وجود طرق أخرى لتمكين فلسطينيي القدس من الاشتراك في الانتخابات، ويأتي ضمن ذلك تحويل عملية الانتخاب إلى عملية كفاحية، إن لفضح سياسات إسرائيل وكشف عور ديمقراطيتها، على الصعيد الدولي، أو لفرض إرادة الشعب الفلسطيني بإجراء الانتخابات رغم أنف إسرائيل، بيد أن القيادة الفلسطينية، في الواقع، لم تبال بأيّ من ذلك ولم تهيئ ذاتها، ولا شعبها لهكذا تحد.
الآن، وفيما يخص السؤال، ماذا بعد تأجيل الانتخابات؟ فمن الواضح أن القيادة الفلسطينية، أو الطبقة السياسية المهيمنة، تنفست الصعداء، إذ أعفت نفسها من هذا الاستحقاق، ومازالت تسيطر على المنظمة والسلطة، وعلى الموارد والمؤسسات وأجهزة الأمن، وهي التي تحظى بالشرعية العربية والدولية.
أما على الصعيد الوطني فثمة إحباط عام عند الفلسطينيين، سواء في الداخل أو الخارج، إذ تم تضييع فرصة جديدة عليهم لإحداث تغيير سياسي، بهذا القدر أو ذاك، في كياناتهم السياسية، لاسيما أنه كان يؤمّل أن تستكمل تلك العملية إلى انتخابات رئاسية تفضي إلى انتخابات مجلس وطني فلسطيني، ما يمكّن من إعادة بناء منظمة التحرير.
أيضا، عبر تأجيل العملية الانتخابية، أو وقفها، فقد تم تكريس الانقسام بين الضفة وغزة، بعد أن كانت الآمال انتعشت بإمكان الجسر بين السلطتين كنتيجة للانتخابات، بل إن قرار التأجيل أضفى نوعا من الشرعية على سلطة حماس، لاسيما وأن تلك الحركة تجاوبت مع دعوات الوحدة، في اجتماعات رام الله وإسطنبول والقاهرة، كما أنها تجاوبت مع العملية الانتخابية، في حين أن قيادة فتح أطاحت بالجانبين.
المعنى من كل ما تقدم، أن الوضع الفلسطيني سيبقى على حاله، أي إلى مزيد من التكلس، والفوات التاريخي، وخيبات الأمل، وفقدان الشرعية، والانقسام، والضياع، في حين تزداد التحديات والضغوط الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، لاسيما في الداخل، سواء في 48 أو في القدس، على ما شهدنا في هبة القدس وفي الهجمة الاستيطانية في حي الشيخ جراح، أو في مختلف مناطق الضفة الغربية.
ما البديل إذن؟ حقا لا يوجد بديل جاهز، ولا يوجد تيار ثالث فعلي بين فتح وحماس، ولا توجد قوى قادرة على طرح بديل عملي، لكن المسؤول عن كل ذلك هو القيادة الفلسطينية ذاتها، بحكم سيطرتها على الفضاء العام وعلى الموارد، وبحكم تهميشها للكيانات الفلسطينية لاسيما منظمة التحرير، وحؤولها دون تبلور مجتمع مدني، وتحويلها الحركة الوطنية إلى سلطة على شعبها، بأتم معنى الكلمة، تحت سلطة إسرائيل، ما يجعل منها أكبر عائق أمام سعي الفلسطينيين لتغيير واقعهم؛ هذا أولا. ثانيا، حتى لو من دون تشكل بديل فإن بقاء الوضع الراهن على حاله سيعمق من حال الشلل عند الفلسطينيين، ومن فوات حركتهم الوطنية، لذا لا يمكن الحديث عن أيّ بديل دون التحرر الذهني على الأقل من الواقع الحالي، ما يتطلب إحداث قطيعة مع كل الكيانات والخطابات وأشكال العمل التي أوصلت الشعب الفلسطيني، وقضيته وحركته الوطنية، إلى هذا الدرك، والتي لا يمكن الفصل بينها وبين الطبقة السياسية السائدة.